الفصل العاشر
فرض القتال
إن قريشًا التي طال تكبرها، قد لقنتها سرية نخلة درسًا لم تنسه، فعبد الله بن جحش ونفر من المسلمين معه يستطيعون بسهولة أن يغيروا علي تجارة قري، فيسوقوا عيرها إلي المدينة مع أسيرين، وقد خلفوا وراءهم قتيلاً، لكن قريشًا المعاندة والتي أدركت الخطر علي طريق تجارتها إلي الشام، قد اختارت سبيل الحرب من جديد، وهنا وفي شعبان سنة اثنتين من الهجرة نزلت آيات الله تعالي الفارضة للجهاد، والقتال في سبيله، ثم ما لبثت هذه الآيات غير يسير، حتى تليت بآيات من سورة مُحَمّد، تصف طريقة القتال، وتبين أحكامه، وتحث عليه، وتذم أولئك الوجلين منه، الخائفين علي أنفسهم.
تحويل القبلة
إن رفع الستار قد يكون لفضح المتسترين به، أو لاستقبال نهار يوم جديد، أما تحويل القبلة، فقد كان الأمرين معًا!!. فحين نزل أمر الله تعالي في شعبان في العام الثاني من الهجرة بتحويل قبلة المسلمين من المسجد الأقصى بالقدس، إلي المسجد الحرام بمكة، فضح كثير من ضعفاء اليهود ومنافقيهم، الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا عداوته* فضحوا برفضهم الامتثال لأمر الله، ورجوعهم إلي ما كانوا عليه، فتطهرت صفوف المسلمين منهم. ولا شك أيضًا أن في تحويل القبلة إيذانًا باستقبال طور جديد في دعوة المسلمين، طور لا ينتهي إلا باحتلال القبلة الجديدة، فهل يصلي المسلمون لقبلة قد نجستها أوثان المشركين؟! اللهم لا!.
غزوة بدر الكبرى
قلة من المؤمنين ساقهم الله تعالي لملاقاة الكثرة من المشركين المتكبرين، حتى إذا وافوهم لم يلبثوا إلا يسيرًا، ثم نصرهم الله بقدرته عليهم، تلك كانت قصة بدر! القصة التي مهما قلبت صفحاتها طالعتك قدرة الله، وتدبيره لعباده، حين تتأمل سبب الغزوة، أو قوة الجيش المسلم وتنظيمه، وإذا صحبتهم في الطريق إلي بدر أو استمعت إلي النذير في مكة، أو رأيت تجهز المشركين للغزو، وتحرك جيشهم، وانفلات عيرهم، وانشقاق جيشهم، في كل ذلك ستجد حتمًا قدرة الله وتدبيره!. إن مشاهد بدر المتتالية تغرس اليقين في قلب المسلم، وتورثه صدق التوكل علي ربه، توكلاً لاينافيه أخذه بالأسباب، إن هذه المعاني تتسارع إلي قلوبنا ونحن نشاهد الرسول *صلي الله عليه وسلم* يستشير صحابته قبل الغزوة، ثم حين يقوم بالاستكشاف لمعركته، وتتسارع إلي قلوبنا ونحن نستمع إلي صوت نزول المطر قبيل المعركة، أو ونحن نري نشر القوات وتهيئة مكان القيادة، ثم حين نستمع إلي صوت القيادة، ثم حين نستمع إلي كلمات المصطفي *صلي الله عليه وسلم* وهو يقوم بالتعبئة المعنوية، وكذلك حين نولي وجهنا شطر الجانب الآخر فنلحظ الخلاف وقد تجدد في صفوف المشركين، لكن الأعجب من ذلك كله، هو دقات قلوبنا التي لا زالت بعد أربعة عشر قرنًا من هذه الحادثة تتلاحق وهي تتابع ترائي الجيشين، وقدوم ساعة الصفر، ثم المبارزة الأولي قبل الهجوم العام، ومناشدة الرسول ربه عز وجل، والهجوم المضاد، وانسحاب إبليس من المعركة، ثم الهزيمة الساحقة، ونهاية المعركة. إن مشاهد هذه الغزوة لا تسأم منها قلوب المؤمنين أبدًا، وإن صورة مكة وهي تتلقى أنباء الهزيمة، والمدينة وهي تتلقي أنباء النصر، ثم تستقبل عودة النبي *صلي الله عليه وسلم* وجيشه إليها لترسم في مخيلتنا نهاية حلقة من حلقات الصراع بين الحق والباطل، أما قضية الخلاف في الغنائم، وقضية الأسري، فتؤكدان بشرية حملة ذلك الحق، وحاجتهم الدائمة للتربية والتوجيه.
سبب الغزوة: كسائر السرايا والغزوات التي سبقت بدرًا، بل كامتداد لإحداها *غزوة ذي العشيرة* كان منشأ هذه الغزوة، علم رسول الله *صلي الله عليه وسلم* برحيل عير لقريش. وعير هذه المرة قد بلغ عددها ألفًا، وحملت من الدنانير الذهبية ما لا يقل عن الخمسين ألفًا، أما حرسها فلم يزد علي أربعين رجلاً، يرأسهم أبو سفيان بن حرب في رحلة عودته من الشام إلي مكة، وما عزم رسول الله *صلي الله عليه وسلم* علي أحد بالخروج * كشأنه في سائر السرايا والغزوات السابقة* بل أعلن قائلاً: هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها؛ ولذا فإنه لم ينكر علي أحد من الصحابة تخلف عنه في هذه الغزوة. هذا وقد استخلف رسول الله *صلي الله عليه وسلم* علي المدينة والصلاة عبد الله بن أم مكتوم، حتى إذا كان بالروحاء رد أبا لبابة بن عبد المنذر، واستعمله علي المدينة وقد كان خروجه *صلي الله عليه وسلم* في اليوم الثامن أو الثاني عشر من رمضان للسنة الثانية من الهجرة.
قوة الجيش وتنظيمه: أسرع رسول الله *صلي الله عليه وسلم* لإدراك العير، فلم يكن معه إلا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، قد اصطحبوا فرسين لا ثالث لهما، أحدهما للزبير بن العوام والآخر للمقداد بن الأسود الكندي وسبعين بعيرًا يعتقب كل بعير الرجلان والثلاثة، وقد كان رسول الله وعلي ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيرًا واحدًا، أما لواء الجيش فكان أبيض يحمله مصعب بن عمير العبدري. وقد قسم رسول الله *صلي الله عليه وسلم* جيشه إلي كتيبتين: إحداهما للمهاجرين، ويحمل علمها علي بن أبي طالب، والأخرى للأنصار ويحمل علمها سعد بن معاذ، كما جعل علي الميمنة الزبير بن العوام وعلي الميسرة المقداد بن عمرو، وعلي الساقة قيس بن أبي صعصعة. أما القيادة العامة فكانت في يده *صلي الله عليه وسلم*.
الطريق إلى بدر: سار الجيش علي الطريق الرئيسي المؤدي إلي مكة، حتي بلغوا بئر الروحاء، ثم ترك طريق مكة بيسار، وانحرف ذات اليمين علي النازية * يريد بدرًا* فسلك في ناحية منها، حتى قطع واديًا يقال له رحقان، بين النازية وبين مضيق الصفراء، ثم مر علي المضيق، ثم انصب منه حتى قرب من الصفراء، وهنالك بعث بسبس بن عمرو، وعدي بن أبي الزغباء الجهنيين إلي بدر يتجسسان له أخبار العير، وعند وادي ذفران جاءه خبر انفلات العير، وتجهز جيش المشركين وتحركه، فاستشار صحابته في الرجوع أو القتال، ثم واصل مسيره فسلك علي ثنايا يقال لها الأصافر، ثم هبط إلي بلد تدعي الدبة، وترك كثيبًا عظيمًا يسمي الحنان بيمين، حتى نزل قريبًا من بدر.
النذير في مكة: "يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها مُحَمّد في أصحابه، لا أري أن تدركوها، الغوث الغوث"!. كانت هذه هي الصرخة التي شقت سماء مكة، الملتهبة بقيظ نهار رمضان، وقد أسرع أهل مكة نحوها، فوجدوا ضمضم بن عمرو الغفاري، الذي استأجره أبو سفيان؛ ليحذر قريشا، فتنقذ تجارتها التي معه* وجدوه واقفًا علي بعيره، وقد جدع أنفه، وحول رحله، وشق قميصه، وأخذ يصرخ بصرخته السالفة.
تجهز المشركين للغزو: إن قريشًا التي لم تندمل بعد جراحاتها من سرية نخلة، قد فزعت إلي الحرب مسرعة، وهي تصيح: أيظن مُحَمّد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟ كلا، والله ليعلمن غير ذلك!، وإن مُحَمّدا *صلي الله عليه وسلم* الذي خرج في قليل من أصحابه يطلب العير، تعد له الآن قريش جيشًا عرمرمًا، فمن لم يخرج من رجالها بعث مكانه رجلاً، وسوي أبي لهب لم يتخلف أحد من أشرافها، وما تقاعس عنهم بطن من بطون قريش خلا بني عدي، فلم يخرج منهم أحد، وما مضت إلا سويعات قليلة حتى كان جيش قوامه ألف وثلاثمائة مقاتل، معهم مائة فرس، وستمائة درع، وجمال كثيرة، قد بدأ مسيره، يتقدمه قائده العام أبو جهل بن هشام. لكن قريشًا بعد أن همت بمسيرها، تذكرت حربه مع بني بكر وخشيت أن تغير علي مكة في غيابها، فتبدي لها إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم *سيد بني كنانة* يطمئنهم قائلاً: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه. فمضوا، وما علموا أن ما يكرهونه من خلفهم، قادم إليهم من بين أيديهم!.
تحرك جيش المشركين: "الآن نقتل مُحَمّدا وصحبه، الآن يمحى من الدنيا وجودهم، وغدًا تعلم العرب من نكون"! يبدو أن هذه الخواطر التي جالت برؤوس قريش الفارغة، وهي تدب بأقدامها الثقيلة في صحراء الجزيرة، فيعلو في الآفاق دويها، ويرتفع في السماء غبارها الكثيف، أما السؤال الذي تردد في صدور قريش، فتعجبها: أي قوة الآن في أرض العرب تقوم لنا؟!، تحركت جموع قريش بسرعة فائقة نحو الشمال في اتجاه بدر، وسلكوا في طريقهم وادي عسفان ثم قديدًا ثم الجحفة، حيث جاءتهم رسالة جديدة من أبي سفيان تقول كلماتها: إنكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم، ورجالكم وأموالكم، وقد نجاها الله فارجعوا. وقد كانت هذه الرسالة سببًا لوقوع انشقاق في جيش المشركين.
العير تفلت!: إن داهية قريش، أبا سفيان بن حرب ليس كعمرو بن الحضرمي وصحبه، الذين فتك بهم نفر قليل من المسلمين في سرية نخلة، فالرجل الحذر يعلم أن طريق القوافل اليوم ليس آمنًا كالأمس، وهو لذلك لا يكاد يخطو خطوة إلا وقد سبقتها حركاته الاستكشافية، وقد تقدم عيره حين اقترب من بدر، فلقي مجدي بن عمرو فسأله عن جيش المدينة فقال: ما رأيت أحدًا أنكره، إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلي هذا التل، ثم استقيا في شن لهما، ثم انطلقا. فأسرع أبو سفيان إلي روث بعيريهما، ففته فإذا فيه النوى، فأدرك أنها عير علفت بتمر يثرب، فبادر بترك الطريق الرئيسي الذي يمر ببدر، واتجه نحو الساحل، ناجيًا بالقافلة من الوقوع في قبضة جيش المدينة