شاكر فاخوري ... الجاسوس الذي قتلته نزوة ... !!
قليلون جداً .. أولئك الخونة الذين أسلموا قيادهم .. برغبتهم .. إلى مخابرات دولية معادية من أجل شهوة المال... والتاريخ الطويل الحافل بالصراع بين المخابرات العربية والمخابرات الإسرائيلية، يحفظ لنا تفاصيل هذه القصص القليلة جداً، التي يطرق أبطالها أبواب السفارات الإسرائيلية في الخارج، ويعرضون "خدماتهم" ويكتبون بأيديهم وثيقة خيانتهم للوطن دون رغبة في الانتقام من نظام، أو تعويض خسائر معنوية، اللهم فقط – الحصول على المال الحرام بأسلوب سهل، دون أن يحسبوا حساباً لعيون المخابرات العربية التي ترصد ولا تنام.
وكان شاكر فاخوري، أحد هؤلاء الخونة الشواذ الذين قتلتهم النزوة .. !!!
أساطير الوهم
... في أعقاب نكسة يونيو 1967... اشتد نزف الجرح العربي ... وخيمت قتامة قاسية وعم إحساس مرير بالمهانة. ولم تستطع وسائل الدعاية والإعلام العربية التغلب على سطوة هذا الشعور لفترة وطويلة.
فإسرائيل لم تكف عن اختراق حاجز الصوت بقاذفاتها كل يوم في السماء العربية، دون رادع يوقفها... وكأنما هي في رحلة ترفيهية آمنة، فتسخر بذلك من أجهزة الدفاع، ومن قوات العرب الت ياندحرت لاهثة أمام ضربات اليهود الفجائية. وتؤكد للعالم أن ادعاءات القوة العربية ضرب من الوهم والخيال.
وفي سكرة الصدمة القاتلة... أصيبت الأمة العربية بصدمة أخرى يومي 9 و 10 يونيو 1967 وصفها في مذكراته الفريق أول محمد فوزي قائلاً:
(الإحساس بالضياع النفسي يملأني طوال إقامتي بمقر القيادة العامة للقوات المسلحة بمدينة مصر. طوال هذين اليومين كانت مصر بلا قيادة فالقيادة السياسية غير قائمة بإعلان جمال عبد الناصر عن قرار التنحي، والقيادة العسكرية العليا أيضاً غير موجودة باعتزال المشير عبد الحكيم عامر وشمس بدران في منزليهما، بالإضافة إلى قادة أفرع القوات المسلحة الرئيسية الذين قدموا استقالاتهم).
هذا هو الجو النفسي المحزن الذي خلفته الهزيمة .. التي أجبرت العرب على تنكيس أعلامهم حداداً على قتل الكرامة والعزة والكبرياء. وفي خضم هذه المأساة.. كانت إسرائيل على جانب آخر تراقب مراحل سقوط العرب ... وتعن بغطرسة استحالة قيامهم ثانية ... ولو حدث .. وقاموا ... فقيام مريض أشل يجر أعضاءه زاحفاً.
ومن هنا .. نشطت المخابرات الاسرائيلية وأعدت العدة جيداً لمراقبة الجسد العربي الصريع ومحاولات النهوض من جديد.
لذا ... فقد بثت العيون والجواسيس والأجهزة .. ترصد وتحلل وتحسب ... وتتوقع ما ستنبئ عنه الخطوة القادمة... وكان رأي خبراء المخابرات الإسرائيلية الذي لم يحيدوا عنه ... أن هذه الضربة التي أفقدت العرب قوتهم وتوازنهم .. بل وصوابهم .. لا بد لها من رد فعل حتمي سيتأكد حدوثه في لحظة ما.
وهكذا لم يجلس رجال الموساد في انتظار الضربة المفاجئة.. بل عملوا على كشف تحركات واستعدادات العرب العسكرية والدبلوماسية للتكهن بنواياهم التي يضمرونها ... وكان لا بد من تلافي الضربة القادمة... بالعمل على عدة محاور استراتيجية ... أهمها الإسراع بالبرنامج النووي الإسرائيلي لإرهاب العرب .. وإخضاعهم بالتخويف ... وإحباط عزيمتهم بالدعاية التي تصورهم كأنهم الأساطير . وكذلك بالعمل على تزويد الجيش اليهودي بأحدث مبتكرات تكنولوجيا السلاح العالمية .. لإظهار التفوق الكبير على جيوش عربية لا تستوعب السلاح الحديث. وأيضاً .. تنشيط الأقسام المختلفة في جهاز الاستخبارات الاسرائيلي بما يضمن الحصول على أدق الأسرار – العسكرية والاقتصادية والصناعية – من خلال شبكات متعددة من العملاء والجواسيس المهرة ... الذين زرعوا في غالبية المدن العربية، ينقلون لتل أبيب كل مشاهداتهم وتقاريرهم.
لذا ... فلا عجب إن لاحظنا كثرة أعداد الخونة الذين سقطوا في مصيدة الجاسوسية الإسرائيلية بعد نكسة يونيو 1967 .. في ذات الوقت الذي نشطت فيه المخابرات العربية للكشف عن هؤلاء الخونة الذين توإلى سقوطهم وشنقهم. وكان من أبرزهم – شاكر فاخوري – الذي سعى بنفسه للدخول إلى وكر الجواسيس طمعاً في المال .. !
كلهم جون .. وروبرت
نشأ شاكر فاخوري نشأة أولاد الأثرياء. فهو لم يعرف يوماً طعم الفقر .. ولم يذق مرارته.. وبرغم ذلك ظهرت بوادر الفشل في حياته أثناء دراسته الابتدائية فكان تعثره الدراسي يرهق بال أهله ويحيرهم.
وفي المرحلة الإعدادية وصم في محيطه بالفاشل ... وأحاطته حكايات تداولتها الألسنة عن سرقاته المتعددة لأموال والده.. وتخوف الأقارب من يده الطويلة حين زيارته لهم.
وبعدما ضج أهله وصرخوا من تصرفاته الطائشة الغبية .. الحقوه بمعهد مهني في روض الفرج .. فخرج منه كأنه لم يدخله... واستدعى لتأدية الخدمة العسكرية فتهللت أسارير أسرته التي نكبت به .. ولحق بها الأذى من سلوكه المعوج.
وما إن أمضى مدة تجنيده في الدفاع الجوي.. حتى وجد نفسه بلا عمل.. ونظرات الحيرة والقلق تنهش جلده ممن يحيطون به. فحمل حقيبته المليئة بالفشل وسافر إلى الكويت.. وعمل بإحدى الشركات الأجنبية في جزيرة فيلكه الواقعة بمدخل خليج الكويت.
كانت إقامته في كرافان معدني صغير مع فني أمريكية فرصة له ... ليتقرب من خلاله إلى إدارة الشركة الأجنبية... التي رأت عدة مرات الاستغناء عنه لافتقاره إلى الخبرة الفنية.. وكان رفيق مسكنه – جون باليدر – مكلفاً بتدريبه على أعمال اللحام (ضغط عالي) لذلك .. كاد شاكر أن يقبل قدمي جون ... عندما أخطأ خطأً فنياً من شأنه إحداث أضرار جسيمة بأحد الأجهزة الدقيقة. لكن جون تدارك الخطأ سريعاً ثم صفعه على وجهه وبصق عليه.. فانفجر الرعب في وجه شاكر خوفاً من تقرير جون .. الذي بسببه سيطرد فوراً من الشركة ويعود إلى مصر بفشله.
وحاول جاهداً استمالة جون والاعتذار له. لكن جون ظل لأكثر من ساعتين يكتب تقريره المفصل.. وبعدما فشلت محاولات شاكر .. بكى في ضعف فقام جون إليه وقال له:
Ø أستطيع أن أمزق تقريري عنك ولكن في حالة واحدة فقط.
Ø في ضراعة نظر شاكر إليه قائلاً:
Ø لن أنس لك ذلك أبداً مستر جون .. ماذا تريد مني؟
اتجه جون إلى مفتاح الإضاءة وأطفأ أنوار الكرافان .. وسمع شاكر حفيف ثياب تخلع وأنفاس تتلاحق ... فارتعش وانكمش في مكانه وقد ولت جرأته.
التصق به جون وقال له في صراحة:
Ø لكي تستمر في العمل لا بد وأن تستجيب لي. لقد ألحقت تحت إمرتي بعد فشلك في عدة أقسام أخرى. وعدم رضائي عنك معناه الطرد. هيا .. هيا قرر الآن فوراً... !!!
وعندما لم يلق جون رداً .. امتدت يده تتحسس شاكر الذي تفصد منه العرق... وارتعدت "مفاصله" والجمه الخجل والخوف.
لم يطل الموقف المخزي كثيراً... إذ قام شاكر "بالمطلوب" واستراح اليه جون .. وكتب فيه التقارير الكاذبة التي حسنت من وضعه أمام إدارة الشركة .. وجعلته يشعر بالأمن في جزيرة فيلكة إلى حين.
لقد اشترى برجولته سكوت جون عن أخطائه في العمل ولم يكن ليتخيل أن يقوده الخوف من الطرد إلى هذا الفعل الشائن... وحاول أن ينسى ما حدث معتقداً أن جون سيتركه لحاله... ولكن خاب اعتقاده وتكرر الأمر في اليوم التالي أيضاً ... وازدادت مطالب الشاذ الأمريكي يوماً بعد يوم .. بل وحدثت كارثة جديدة وضعت شاكر في مفترق طرق وخيار صعب يكاد يقضي عليه.
جاءه جون بمهندس قبرصي يدعى "روبرت هوب" يشغل وظيفة كبيرة في الشركة .. وطلب منه أن "يتعامل" معه بحرية... ووجد شاكر نفسه مطالب بتلبية شذوذهما دون اعتراض.. بل أسفرت علاقته بالمهندس روبرت عن إحساسه بمهانة ما بعدها مهانة. إذ فوجئ به يريد "مبادلة المواقع" فتأفف شاكر ثائراً ورفض أن يقوم بدور الأنثى حتى ولو خسر عمره. فزجره روبرت وتهدده بالرفد من الشركة التي رفعت من راتبه كثيراً بتوصيات دائمة منه ومن جون. ولم تمر عدة أيام حتى استدعاه مدير شؤون العاملين وأخبره بنبأ الاستغناء عنه، وواجه شاكر المفاجأة بخوار واهن وحاول أن يشرح للمسؤولين بالشركة حقيقة الأمر .. لكن صمتهم أخافه .. وكانت اللامبالاة إجابة للتساؤلات التي بعقله...فكل الأمريكان بالشركة كانوا جون ... وروبرت. وبعد خمسة أشهر من العمل في الجزيرة حمل حقائبه ولكن إلى بيروت لا إلى القاهرة.