اغتصب
طفلا يهوديا فأوشى به للشرطة العراقية
زكي حبيب
ـ الزاحف على الممر
الزاحف على الممر ... !! كان إنساناً مريضاً... لا علاج أبداً لمرضه... فهو يعشق الشذوذ لدرجة الإدمان... وبسبب ذلك ظل يسعى حول فرائسه في كل مكان ... إلى أن أوقعه حظه السيئ في نفق مظلم .. أوصله إلى النهاية ... !!
الانتصار الهزيل
سبق أن قلنا أن إسرائيل ترى في العراق العدو المبين، وهي بالطبع لن تقف موقف المتفرج السلبي أمام مصالحها، لذلك فلا عجب أن هي أعادت الكرة مرات ومرات في محاولات محمومة، لإجهاض "العقول" التي تقف ضد أطماعها ومصالحها وسياساتها في العراق.
لقد أفقدتها لطمة إعدام الضابط الإسرائيلي والعملاء الخمسة توازنها، إذ كان لا مفر من القيام بعملية ناجحة في بغداد تحفظ ماء وجهها. وتعيد الثقة لعملائها هناك، الذين تملكهم الرعب خوفاً من الإعدام كزملائهم السابقين. وكان انتصار الموساد في عملية واحدة، كفيل بأن يعيد ثقة هؤلاء المهتزة، في حتمية التعامل معهم. وما هو إلا شهور وجيزة، إلا ونصبت شباكها حول "زكي حبيب" التاجر اليهودي الشاذ.
كان حبيب شاباً يافعاً ثرياً، تعدى السابعة والثلاثين من عمره يعمل تاجراً للملبوسات، اشتهر بميوله الشاذة مع الأطفال، وكثرة إنفاقه على هوايته بإغداق الهدايا على ضحاياه.
وحدث أن تمكن صبي يهودي من سرقة مبلغ كبير من خزانته انتقاماً لاغتصابه، فجن جنونه، وألهاه البحث عن الصبي عن تجارته، فتعرض لخسائر أخرى أغرقته في الديون وأوشك على الإفلاس. وساقت إليه الصدف صائد ماهر، يبحث عن ضعاف النفوس للإيقاع بهم في فخ الجاسوسية والخيانة.
ولأنه ضعيف بطبعه أمام نزواته، وخائن لا يعرف الأمان طريقاً إليه، كان من السهل اصطياده، فانخرط في الجاسوسية لصالح الموساد دون جهد يذكر، بعدما حصل على المال اللازم لتسديد ديونه، مستغلاً متجره بشارع الرشيد – أكبر شوارع بغداد – في إدارة عمله التجسسي، مستعيناً بعدد لا بأس به من العملاء اليهود الذين يسكبون المعلومات بين يديه كل يوم.
لقد كان مكلفاً بجمع أكبر قدر من المعلومات العسكرية عن الجيش العراقي، وإمداداته، وتشكيلاته، وقواعده. وكذا، معلومات عن الضباط الذين كانت تربطهم به بعض العلاقات. وانصب محور اهتمامه على القطاع الشمالي والغربي من العراق، حيث كانت قواعد الصواريخ والرادارات والدفاع الجوي.
وبعدما قطع شوطاً في عمله، جاءته أوامر قاطعة بالكف عن البحث في الأمور العسكرية، وتوجيه نشاطه لدفع حركة الهجرة اليهودية لإسرائيل.
ابتهج حبيب لذلك كثيراً. ففي النشاط الجديد تكمن غاية لذته... كيف ... ؟ استغل حبيب رغبة أعداد كبيرة من فقراء اليهود في الهجرة، وأقام محطات "تجميع" سرية لهم بأماكن مختلفة خارج بغداد. وإذا ما وجد ضالته بين أطفال إحدى الأسر، انتهز الفرصة ومارس هوايته الشاذة تحت التهديد بإيقاف ترتيبات الهجرة، فيضطر الأباء إلى غض الطرف عن أفعاله، في احتجاج صامت جرياً وراء الحلم الأكبر، حلم الوطن القومي والخير الموعود.
هكذا ظل العميل الإسرائيلي طوال عام 1951 يتصيد الفقراء ويأويهم، في انتظار الوقت المناسب، لتسريبهم عبر شط العرب إلى إيران فإسرائيل، منتهزاً الفرصة بين آونة وأخرى للانفراد بالصغار، إلى أن حدث ووقع في خطأ داهم، عندما اغتصب صبياً يهودياً عنوة اسمه "عقيد" يتيم الأبوين تملؤه الرغبة في الهجرة للحاق بخالته في حيفا...
وما إن تخلص منه الصبي ذو الأربعة عشر عاماً، حتى أسرع من فوره إلى الشرطة، واعترف بما حدث له من حبيب، ونشاطه السري في تهريب اليهود.
استشعر العميل الإسرائيلي الخطر، واستطاع الهرب في آخر لحظة والاختباء لدى أحد أعوانه بمنطقة نائية، وعلم فرع الموساد في "عبادان" بأمر الجاسوس الهلوع، فأُبلغ أن يظل بمخبئه إلى أن يجدوا له وسيلة آمنة لإخراجه من العراق... حتى لا تثار فضيحة أخرى تهدد خطة تهجير اليهود.
ولأن المخابرات البريطانية دأبت طوال عهدها على خدمة الصهيونية، فقد تطوعت بالمساعدة، وتحملت هي وحدها مسؤولية العملية كلها.
أمضى رئيس فرع المخابرات البريطانية في بغداد وقتاً طويلاً مع ضباطه للتشاور والبحث، وأسفر الأمر في النهاية عن وضع خطة دقيقة محكمة، يقوم فيها أعوان زكي حبيب بدور رئيسي لإنجاحها.
في ذلك الوقت كانت فرق كاملة من الشعبة الثانية (المخابرات)، تمشط بغداد وضواحيها بحثاً عن الجاسوس الهارب وأعوانه، الذين لا يعرف الصبي "عقيد" سوى أشكالهم فقط! لذا فقد كان ضيفاً مقيماً لدى الشعبة الثانية، يجوب الشوارع والأحياء مع رجالها في محاولة التعرف على أحد هؤلاء العملاء المجهولين.
هذا في الوقت الذي استقل فيه حبيب شاحنة بضائع، انطلقت به في سواد الليل وأنزلته بجوار سور مطار بغداد، فارتقاه في غمضة عين، وظل يزحف لمسافة طويلة على أرض المطار باتجاه طائرة بريطانية كانت تقف على ممر فرعي في طريقها إلى لندن.
كان باب الشحن مفتوحاً، وثمة عمال يجيئون ويذهبون بعربات البضائع القطارية يفرغونها ببطن الطائرة، ومن خلال إحدى النوافذ بالطائرة، كانت هناك عيون ترقب الزاحف المتربص، الذي سنحت له الفرصة أخيراً، فقفز في سرعة مذهلة إلى عنبر البضائع، واندس بين الأمتعة حابساً أنفاسه. بعدها، تحركت الطائرة وأسرعت جرياً على الممر ثم صعدت إلى السماء... !!
استقبل العميل الهارب بحفاوة في لندن من قبل رجال الموساد، الذين سفّروه رأساً إلى تل أبيب، حيث استقبل هذه المرة بضجة إعلامية مثيرة، ومنح اسم "مردخاي بن بوارت" وألحق من فوره بالعمل في جهاز الموساد.
أما صورته فقد وضعت بداخل برواز زجاجي ضخم بمدخل مبنى المخابرات، يضم "الأبطال" الذين قدموا خدمات عظيمة لإسرائيل.
كانت الضجة الإعلامية في إسرائيل على أشدها، واحتلت قصة "بن بوارت" صدر الصفحات الأولى في الصحف والمجلات، إذ أحيطت عملية هرب الجاسوس بهالة مبهرة من الثقة والتفاخر، أوصلت بأحد ضباط الموساد إلى التصريح عبر الإذاعة بأن يد إسرائيل الطولى تطوق أعوانها أينما كانوا، وأن لا شيء يصعب على مخابرات إسرائيل، في أي موقع من العالم.
وفي خضم النشوة المسكرة، أعلن فجأة في بغداد نبأ هو بمثابة اللطمة القوية التي أفقدت الموساد توازنها للمرة الثانية، وضيعت عليها نشوة الانتصار الهزيل الذي تحول إلى انتكاسة، وفضيحة مدوية...