الجاسوس يتكلّم
الحدث الأبرز في تلك الجلسة التي عقدت بتاريخ 21/5/2000 هي الأحكام التي صدرت على كمال حماد و حسام حماد . والأهم تجريمهما بالتهم المنسوبة لهما في قضية الاغتيال .
و كما هو متوقع صدر الحكم بإعدام المتهمين كمال و حسام رمياً بالرصاص حتى الموت ، و مصادرة أموالهما المنقولة وغير المنقولة أينما وجدت . بعد أن ثبت لهيئة المحكمة جمع تلك الثروة بطريقة غير مشروعة وأن عملهما مع المخابرات الصهيونية سهّل لهما جمع تلك الثروة (خصوصاً المتهم الأول كمال حماد) .
القاضي العسكري عبد العزيز وادي قال إنه ثبت للمحكمة بالأدلة القاطعة التي لا يشوبها أي شك ارتكاب المتهم الأول كمال حماد و الثاني حسام حماد ، الفارين من وجه العدالة لفعلة التخابر مع الموساد الصهيوني وتقديم كافة التسهيلات التي طلبها الموساد لوضع العبوة الناسفة في جهاز الهاتف النقال الذي اشتراه كمال حماد ووضعه بتصرّف ابن شقيقته أسامة حماد بسبب معرفته بوجود الشهيد عياش في منزل أسامة مختبئاً . (يلاحظ هنا عدم الدقة لدى المحكمة في تحديد اسم جهاز الأمن الصهيوني المسؤول عن تنفيذ اغتيال عياش وهو الشاباك ، بينما جهاز الموساد مختص بالعمل الاستخباري الخارجي ، وإن كان هناك تعاون وثيق بين أجهزة المخابرات ووحدات الجيش الصهيوني المختلفة) .
وثبت لهيئة المحكمة أن خطة الموساد كان إجبار عياش أو ذويه على استخدام الهاتف النقال في الوقت المناسب لاغتيال عياش وهو ما حدث في الساعة السابعة من يوم 15/1/1996 ، عندما اتصل والد عياش وتعطّل أثناء المكالمة الهاتف الثابت، فاتصل والد عياش به على الهاتف النقال، وهذا ما كان ينتظره الموساد ، حيث فجّرت العبوة الناسفة و استشهد المهندس .
ولا نعرف إذا كان العميلان كمال وحسام ، كانا يتابعان مجريات المحكمة ، أو يهمهما قرارها ، فهما اختارا مصيرهما عندما قررا الفرار إلى تل أبيب و منحهما بطاقات هوية صهيونية ، وربما قبل ذلك بكثير عندما ارتبطا بأجهزة الأمن الصهيونية، ولكن على الأقل فإن كمال حماد وهو المجرم الرئيس في قضية اغتيال عياش كان مشغولاً بأموره الخاصة في تل أبيب بعد أن اتهم حكومة (إسرائيل) بالتخلي عنه .
من الصعب معرفة الأسباب التي أدّت لكمال حماد وهو المقاول الثري للتورّط مع الشاباك في عمل مثل اغتيال عياش ، ولا يمكن من خلال معرفة ما أُجري معه من الأحاديث التي أدلى بها للصحافة الصهيونية بعد هروبه من غزة (وتخلّي الشاباك عنه) أن تعطي صورة عن تلك النوعية من (البشر) التي لا تكتفي بالتعامل مع العدو بل تعمل على المشاركة في أعمال شكّلت صدمات لا تنسى للوعي الجمعي كاغتيال يحيى عياش ، الرمز الفلسطيني الذي لا يتكرّر بسهولة .
ولكنها يمكن أن تعطي صورة لما سيكون عليها العميل ، ربما أي عميل ، بعد أن يؤدّي ما طلب منه ، ولا يبقى له أي فائدة ترجى . مثلاً نشرت صحيفة يديعوت أحرنوت يوم الجمعة 22/8/1997 ، عما جرى في يوم 15/1/1996 عندما انفجر الجهاز الخليوي في جسد عياش .
تقول الصحيفة إن كمال حماد ، كان في يافا وبعد ساعتين من الاغتيال ظهر في موقع للبناء في شارع (مخلول - يوفي 5) وحضر للموقع للإشراف على البناء الذي تقوم به شركته ، وسمع النبأ من الراديو في ساعات بعد الظهر ، وكما هو متوقع فإنه أحد المعنيين الرئيسين في الحادث .
وحسب رواية الصحيفة فإنه سارع للاتصال بزوجته الشابة سامية وطلب منها مغادرة غزة والقدوم إليه على الفور إلى تل أبيب ، ولأنه كان ، من قبل الحادث ، يخطّط للسفر إلى أمريكا لزيارة ولده أيمن الذي أرسله للدراسة هناك ، ولكنه ، حسب الصحيفة بدّد (أيمن) النقود التي كانت معه ، ويريد كمال الوقوف بنفسه على أوضاع ابنه .
وكان قرار السفر الفوري أكثر ما يناسب شخصاً في مثل وضعه ، فصعد وزوجته الشابة سامية على أول طائرة متجهة إلى أمريكا قبل أن يعرف أحد تورّطه في اغتيال المهندس .
تقول الصحيفة إن كمال ، الذي اختفى في الولايات المتحدة ، كان عليه أن يواجه (الضربة القاسية التي ألمت به ، لقد توقف المقاول الثري في منتصف مشروع بناء) .
و تضيف : (لقد فوجئ أصحاب المشروع حين اتضح لهم أن المقاول هرب إلى الخارج في منتصف مشروع بناء ، وفوجئ أصحاب المشروع حين اتضح لهم أن المقاول هرب إلى خارج البلاد في أعقاب مقتل المهندس) .
كمال حماد كان في أمريكا بعد حادث الاغتيال المدوّي والذي تردّد رجع صداه في العالم العربي وفي العالم وربما لم تخلُ صحيفة أو وسيلة إعلام تهتم بالسياسية بموضوع عنه . وفي غزة تم اعتقال عددٍ من أقاربه منهم شقيقه محمود و ابن أخيه أكرم حماد و أخ زوجته الثانية عبلة .
وأفرجت السلطة عن شقيقه محمود الذي اتضح للسلطة أنه ليس له علاقة بحادث الاغتيال ولم يكن يعلم به ، وحسب الصحيفة فإن السلطة طلبت من محمود المغادرة من (أجل سلامته) ، فأخذ عائلته المكوّنة من زوجتين و 12 ابناً و انتقل للسكن في بيتٍ كان شقيقه كمال بناه في يافا ، ولم تكن حياته هانئة في يافا فسكان الحي الذي سكن فيه لم يقبلوا أن يعيش بينهم أفراد من عائلات (المتعاونين) ، وهي التسمية التي يطلقها الإعلام الصهيوني على عملاء أجهزة الأمن الصهيونية من الفلسطينيين والعرب ، فانتقل ، في نهاية حزيران 1996 إلى فندق ثم دبّر نفسه في سكن آخر .
وقرّرت زوجة كمال حماد الأولى فاطمة البقاء في غزة ، أما زوجته الثانية عبلة فغادرت غزة ، على الأغلب بسبب مضايقات تعرّضت لها بسبب زوجها الفار ، وانتقلت للعيش ، منفصلة عن زوجها ، في (إسرائيل) .
وحسب تقديرات يديعوت ، لدى نشر تقريرها في أواخر آب 1997 فإن نحو (70) فرداً من عائلة حماد انتقلوا للعيش في (إسرائيل) مغادرين غزة . وفي ذلك التقرير ذكرت الصحيفة أن ابن كمال حماد أيمن غادر الولايات المتحدة ، وأصبح متجولاً في العالم ، وأما كمال فإن ديونه تزايدت ، ولم يكن في نية أية جهة في (إسرائيل) مساعدته في سداد ديونه التي تتزايد ، فباع أملاكه ، في يافا بخسارة ، وكانت أملاكه التي قدّرها الصحافيان بعشرين مليون دولار قد صودرت . وكان حماد ، المقاول الثري سابقاً والعميل لأحد أقوى ، أو أنشط ، أجهزة المخابرات في العالم يدخل (في وضع نفسي سيئ ، بسبب الحالة التي وصل إليها وبسبب فقدان عقاراته و ممتلكاته) . وأصبح نموذجاً لما يمكن أن يشير إليه الفلسطينيون ، بأنه النهاية المتوقعة (لكلبٍ باع ضميره وخان شعبه وفقد شرفه) .
وكانت الأزمة التي يعيشها حماد تتصاعد ، وذهبت طلباته من (إسرائيل) بتعويضه على الأقل عن أملاكه التي صودرت في غزة ، أدراج الرياح ، وفي 4/11/1999 كان يتم إخلاءه من الشقة التي سكن بها ، بعد أن وصلت أزمته المالية منتهاها . ولم يعد قادراً على دفع أجرتها .
واختار أن يدلي بحديث للصحافي (يوأب ليمور) من صحيفة معاريف العبرية نشرت في نفس ذلك اليوم ، في محاولة منه للفت الرأي العام الصهيوني ، على ما يبدو ، لمأساته .
قال حماد : (لقد أصدرت دولة "إسرائيل" ضدّي حكماً بالإعدام والآن تريد أن تدوس على الجثة ، لقد قدّمت حياتي من أجل الدولة واليوم أجد نفسي في الشارع مع عائلتي ، هل هذا هو الأسلوب الصحيح ؟ فكّرت بأن الحديث يدور عن دولة سليمة ولكن كلّ شيء كان مجرّد خدعة ، توصلت إلى حالة افتقدت فيها إلى النقود لدفع إيجار الشقة ومن أجل توفير لقمة الخبز لأولادي وتعليمهم ، لماذا يفعلون بي هكذا ؟) .
ويقول الصحافي الذي أجرى المقابلة إن كمال حماد يعيش في خوفٍ دائم على حياته ولهذا رفض التقاط صور له . ووجّه حماد شكواه ضد (إدارة تأهيل المتعاونين) في مكتب رئيس الحكومة الصهيونية . التي خدعته طوال الوقت كما قال في حديثه للصحيفة . وأهانته باستمرار وكذبت عليه ولم تلتزم بالدفع له .
ويقول حماد عن هذه الإدارة (إن ما يفعلونه بي أكثر سوءاً من التنكيل إنه قتل ، قال لي كبار في الشاباك إن على هذه الدولة أن تقبّل قدميك ، ولكن بدلاً من ذلك ينكلون بي وبعائلتي ، لم أكن أفكّر حتى في أسوأ أحلامي أن هذا سيحدث ولكن هذا الكابوس ينمو ويكبر يوماً إثر يوم) .
وتحدّث حماد عن علاقته مع أجهزة الأمن الصهيونية ، وحسب قوله فإنه في منتصف الثمانينات من القرن العشرين ، نظّم لقاءات في بيته في غزة بين قادة الإدارة المدنية الصهيونية وكبار في أجهزة الأمن الصهيونية وبين وجهاء من غزة لطرح ما يسميه مشاكل السكان .