الجاسوس المدلل
لقد أفرزت
الحرب الأهلية في لبنان واقعاً أمنياً صعباً ، فكانت المخابرات الإسرائيلية "
الموساد" تدفع بعملائها باستمرار للتجسس على الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية
اللبنانية.
وكانت مهمة المخابرات الفلسطينية صعبة للغاية في ظل هذا الواقع ، حيث استغلت
الموساد ظروف لبنان، لتقوم عبر عملائها بمحاولات تخريب العلاقة بين التنظيمات
الفلسطينية واللبنانية ،كذلك محاولة استعداء المواطن اللبناني على الثورة
الفلسطينية.
قصة " الجاسوس المدلل" قصة واقعية، من ملفات المخابرات الفلسطينية ، تعطي صورة حقيقية عن الدور الإسرائيلي في العديد من الأحداث المعروفة والتي في كثير من الأحيان حاول الإعلام الإسرائيلي إلصاق التهم الباطلة بمنظمة التحرير الفلسطينية.
تروي هذه القصة تفاصيل مثيرة حول اغتيال زهير محسن الأمين العام لمنظمة الصاعقة في فرنسا ، كذلك لإفشال الموساد لمحاولة اغتيال السادات.
هذه الحلقة من حلقات المواجهة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل انقلبت عكسياً لصالح المخابرات الفلسطينية التي اخترقت الموساد وقامت بتضليله لفترة طويلة.
قصة " الجاسوس المدلل" تسجل وقائع الحرب السرية بين المخابرات الفلسطينية والموساد منذ منتصف السبعينات وحتى الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982.
الفصل الأول
الرذيلة تقود إلى خيانة الوطن
كان وسيماً وذكياً ، عيناه سوداوان يحتضنان في خفر حور العذارى ، وجهه أسيل متوج بشعر فاحم مموج ، وكم من مراهقة تمنت لو يكون هو العريس وكان يحلو له مطاردة الصبايا المراهقات ويحلو له أكثر إن يتحدث عن انتصاراته الغرامية معهن أمام أصحابه ومجامليه من المراهقين ، وهي انتصارات بريئة ، لم تكن تتعدى ابتسامة عن بعد أو لمسة و عن قرب أو غمزة في الطريق ، فالأهل محافظون والبيئة كلها محافظة . لكن طارق كان يبني على تلك الإشارات المراهقة والبسمات البعيدة قصصاً تدب الحسد والغيرة في صدر الأتراب الصغار. كان كثير الاهتمام بنفسه ومظهره وقليل الاهتمام بدروسه وواجباته المدرسية، وكان يحلم أن يكون غنياً تتدفق الأموال بين يديه ليتسنى له تسجيل انتصارات حقيقية في عالم الجمال والنساء، يترجم قصص المراهقة وخيالاتها إلى حقائق ووقائع . لكن المشوار طويل واليد قصيرة فهو ما زال طالباً في المرحلة الإعدادية وأبوه موظف في الجيش اللبناني، معاشه لا يكفي لأكثر من الستر وسد الحاجة ومصاريف البيت والعائلة لكن طارق يتلظى بتطلعات الشباب ومغامراتهم . يود لو أنه يستطيع ترك المدرسة ومزاولة العمل ليتسنى له تحقيق مآربه، يهمل دروسه ويكثر غيابه عن المدرسة ، يطالب أمه دائماً أن تعطيه مصروفاً كغيره من الأولاد الأغنياء، يغادر المدرسة قبل حصوله على الشهادة الثانوية . تقدم من مكتب لشركة سفريات في شارع الحمراء في العاصمة بيروت، حيث يوجد عملاً هناك ، كان يجيد إلى حد ما الحديث باللغة الإنجليزية ، الراتب قليل ولكنه كاف للظهور بمظهر القادر ، والحياة في بيروت وسط جيله من الشبان حياة مظاهر ، لكنه كان يشعر بالندم حين يخلو إلى نفسه ، لتركه المدرسة ، فالحياة العملية بالنسبة لفتى غير متعلم مثله لاتسمن ولا تغني من جوع. ثم أن والده في تلك الفترة أحيل على التقاعد ووجد لنفسه وظيفة في جريدة لبنانية.
ذات يوم وهو يجلس أمام (الكاونتر) في شركة السفريات دخل عليه رجل وسيم الشاب شعره طويل ينسدل على كتفيه ، فيه رشاقة وأناقة ظاهرة ، تتسم حركاته بالسرعة والانفعال ، تقدم منه بثقة طالباً تذكرة سفر ذهاب وعودة إلى باريس، ذكر له الاسم فبدا مألوفاً لديه وكان طارق قد أدرك حتى قبل أن ينطق الرجل باسمه أن هذا الأرمني المسافر إلى باريس رسام مشهور يلعب بالمال كما يشاء ، سافر الرسام وعاد وبعد فترة رجع إلى مكتب السفريات واشترى تذكرة أخرى للسفر إلى عاصمة عربية هذه المرة . ومرة أخرى إلى باريس. وهكذا قليلاً قليلاً توطدت المعرفة بينهما ، وذات يوم دعا الرسام طارق للغذاء عنده في منزله، ولم يتردد طارق في قبول الدعوة فذهبا معاً إلى المنزل، كان الرسام كريماً إلى أبعد الحدود حيث مد لطارق مائدة شهية، من الحمص المتبل والمشويات والبسطرما، أكل كثيراً وشرب كثيراً وضحكا لأكثر، ولاحظ الرسام أن النعاس أخذ يدب في عيني ضيفه فقال له"( بين عليك تعبان، قوم... نام هونيك على تخت).
في الطريق إلى البيت ، ثار طارق على نفسه ، وندم على العلاقة التي بدأها مع الرسام، إذ كيف يقوم بمثل هذا العمل المشين وهو يعد نفسه شخصاً متكامل الرجولة. بل كيف يندمج في هذا العمل بالرغم من تربيته المحافظة ودينه الذي نشأ عليه يمنعه ويحرمه عليه ، وماذا لو عرف عنه أصدقاءه ذلك ، سيفضحونه بالتأكيد . وسيعلم والده بالأمر وأمه وأخوته ، وتكون فضيحة ما بعدها فضيحة، الموت أهون منها، تحسس الخمسين ليرة التي دسها الرسام في جيبه ، ومضى إلى البيت، اغتسل وخرج يتسكع في الشوارع على غير هدى، ثم ما لبث أن عاد إلى البيت ونام ليذهب في الصباح إلى عمله كالعادة.
بعد فترة جاء الرسام إليه قبل نهاية العمل بدقائق انتظره حتى أنهى عمله وخرجا بسيارة الرسام ومرا على أحد مطاعم الروشة .
بعد عام كامل في شركة السفريات ترك عمله هناك ليلتحق بإحدى الشركات التي تبيع الموسوعات وتسوقها، تدرب في مكتب الشركة في بيروت مدة ثلاثة أشهر قبل أن ترسله إلى إحدى البلدان العربية لتسويق الموسوعات هناك ، مكث في ذلك البلد فترة طويلة جمع خلالها مبلغاً كبيراً من المال ، عاد به إلى بيروت حيث استأجر مكتباً في بناية الحسن سنتر مقابل اليونسكو على طريق المزرعة لممارسة أعمال الديكور وبيع معداته ومستلزماته من دهان وورق جدران و" موكيت" وما إلى ذلك . في البدء كان العمل صعباً ففشل في المشروع وخسر فيه تحويشة العمر. لكنه خلال تلك الفترة تعرف على عدد كبير من الأغنياء ومتوسطي الحال، كما تعرف على أحد الأثرياء ولنسمه " سعيد" الذي يستأجر كلب عام فيلا ضخمة جميلة قرب فندق الريفيرا المطل على الروشة بمبلغ 50 ألف ليرة لبنانية في الشهر. وسعيد لا يأتي إلى بيروت إلا للسهر وانفاق الفلوس على العربدة والتحشيش والسهرات الحمراء، التي ينفق فيها بغير عد أو حساب ، فالرجل سخي مع الأصدقاء ، وكريم مع المعارف والنساء والشباب، يهدي العقود والخواتم المصنوعة من الأحجار الكريمة والذهب التي يسيل لهل اللعاب ، كما لو أنها سجائر وعلب "شوكولا" .
وكم دهش طارق
حين رأى سعيد يهدي أحدهم سيارة (بي.ام. دبليو) فخمة من الوكالة.
ودهش أكثر حين رأى سعيد يلعب بقطعة ضخمة من " الألماس" في يده ، فسأله إن كانت "
ألماساً " حقيقياً فضحك سعيد و ألقاها بين يديه قائلا: " ما رأيك أنت ، خذ تفرج
عليها وتفحصها جيداً " . تفحصها طارق وعرضها أمام عينيه فرآها تضج بالألوان التي
تتقاطع مع بعضها البعض مثل نور على نور، عندئذ قال له سعيد أن ثمنها مليون ونصف
المليون دولار، صعق طارق لدى سماعه قيمة الألماسة فأعادها إلى سعيد وهو يرتجف.
الرسام الأرمني كان أيضاً هناك عند سعيد ، فقد كان صديقاً له وقد اشترى منه سعيد خمس لوحات بمبلغ كبير . لكن الرسام الأرمني لم يكن يرتاح لمناورات سعيد مع طارق. فقد كان يغار عليه من كل الرجال، خصوصاً سعيد.
لم يجد طارق نفسه غريباً عن هذه السهرات الحمراء، وكان يطمح أن يصبح مقرباً من سعيد مهما كلف الأمر ، بالرغم من غيرة صديقه الرسام عليه ولم يكن ليغيب عن سعيد الخبير في هذه الأمور أن يلحظ مدى اهتمام الرسام بالفتى، فاستغل ذهاب الرسام إلى الحمام في إحدى الليالي ليدعو طارق إلى الغذاء عنده في اليوم التالي فرح طارق بالدعوة المنتظرة.
وبعد لقاء حافل ناول سعيد طارق 4 آلاف ليرة لبنانية دسها في جيبه وخرج ، ليعود في السهرة كالعادة وكأن شيئاً لم يكن.
وصاغر طارق يغار على سعيد ، وكانت غيرته تنصب على شخص واحد يدعى" انطوان" الذي كان محظياً من قبل شخصيات معروفة.
صار طارق جزءاً من سهرات سعيد كما صار جزءاً من الليل لحياة الليل. ونظراً لأوضاع بيروت والعنف السائد في بعض مناطقها فقد اشترى طارق مسدساً ، وارد أن يحصل على ترخيص له ، ولما لم يكن منتمياً إلى أي تنظيم حزبي أو سياسي فقد صعب عليه الحصول على الترخيص اللازم . إلى أن كان في أحد الأيام يجلس في أحد المطاعم الصغيرة مقابل جريدة " النهار" حيث يعمل والده، هناك تعرف على سائق سيارة يعمل في الجريدة ، فأخبره بالمسدس وطلب منه أن يساعده في الحصول على رخصة له، فقال السائق (بسيطة) لقد افتتحت منظمة " الصاعقة" مكتباً لها هنا، وأشار بيده إلى موقع المكتب وهو يضيف: مسؤول المكتب ضابط يدعى خليل وهو صديقي ، سأعرفك عليه ولن يردك خائباً . فرح طارق وكان لا يزال غارقاً في الفرح حين دخل خليل بلحمه ودمه إلى المطعم وجلس إلى إحدى الموائد بعد أن سلم على السائق الذي عرفه على طارق فوراً وفاتحه بموضوع المسدس فقال خليل (ولا يهمك بسيطة).
بعد يومين أحضر خليل رخصة المسدس معه إلى المطعم وأعطاها لطارق الذي علم من خليل أنه دائم التردد على هذا المطعم لتناول الإفطار فيه وأحياناً الغداء فكثرت لقاءاتهما وصار خليل يصطحب طارق كثير من الأحيان معه إلى مكتبه في الحمراء وهو ( مكتب 13 أمن الصاعقة ) كما كانا يذهبان معا للعب " الفليبر " في أحد المحلات القريبة من المكتب ، حيث يقضيان عدة ساعات أمام الماكينات يلعبان ويقتلان الوقت . مع الأيام ومن خلال الضابط خليل تعرف طارق على معظم المسئولين في منظمة الصاعقة ، خصوصا " نسور الثورة " جناحها العسكري .
أصبح من عادة خليل تكليف طارق ببعض المهمات البسيطة في ظل الفوضى التي كانت تسود في بعض التنظيمات ، و بالرغم من عدم انتماء طارق للتنظيم إلا أنه كان سعيد بالمهمات التي يكلفه بها خليل و لتي تمثل في إعداد جوازات السفر لمقاتلين في مهمات خارجية ، و الحصول على التأشيرات اللازمة . و لم يكن يتقاضى مقابل عمله هذا أية أجور . فقد كان يشعر أنه يقوم بعمل مهما ضؤلت قيمته ، إلا أنه يندرج في باب العمل الوطني القومي . خصوصا أن خليل لم يكن من النوع الذي يخفي أسرارا ، فقد كان كثير الحديث عن عمله في المنظمة وعن المسئولين فيها و أحيانا كثيرة كان يدلي له بأخبار عن طبيعة المهام التي سيقوم بها الفدائيون .