الجزء الأول
المقدمة
قدر فلسطين أن تكون مهد الديانات
ومهد الصراع منذ فجر التاريخ وقدر الفلسطينيين، بالنتيجة أن يكونوا في فوهة هذا
الصراع وواجهة الحرب، منذ ذلك اليوم الذي اقتحم فيه يشوع بن نون مدينة أريحا لتشهد
أرض القداسات أول مجزرة للفلسطينيين على أيدي اليهود، وليتعاقب الغزاة على أرض
اللبن والعسل، ولتعدد المجازر مروراً بالصليبيين ودير ياسين وصبرا وشتيلا .
وبعد مرور سبعة عشر عاماً على تأسيس كيان العدو الإسرائيلي قامت منظمة التحرير الفلسطينية وأخذ الصراع الإسرائيلي –الفلسطيني منحى جديداً في التاريخ فقد دأب هذا الكيان على إلغاء الوجود الفلسطيني من ذاكرة العالم، فقامت المنظمة بترسيخه وأعادت الذاكرة إلى العالم في سلسلة طويلة من العمليات البطولية واتسعت المواجهة الفلسطينية – الإسرائيلية على مساحة العالم كله، الأمر الذي جعل من الحرب السرية بين المنظمة وإسرائيل أخطر الأساليب في هذا الصراع . وقد اشتهر الموساد ( جهاز المخابرات الإسرائيلية ) في العالم كله، بفضل استعانته باليهود المحترفين من مختلف الأقطار، بل وباليهود في أجهزة المخابرات الغربية، وفي المناصب العليا والحساسة في هذه الدول، مما أتاح له تسجيل بعض النجاحات في الصراع العربي – الإسرائيلي حتى قيل من باب الدعاية والغرور ، انه "أكفأ جهاز وغير قابل للاختراق كن العديد من أجهزة المخابرات العربية، استطاعت اختراق الموساد في أكثر من مكان، واكثر من مناسبة . بل إن جهاز المخابرات الفلسطيني يسجل باستمرار اختراقات كبيرة أدت في أكثر من مرة إلى قيام العدو بإجراءات شاملة لغربلته وتغييره بلا نتيجة .
ومن ملف المخابرات الفلسطينية ننشر القصة الحقيقية التالية بعد تغيير الأسماء. وتغيير بعض الحوادث لأن أبطال هذه القصة ما زالوا أحياء . وما زالت الأحداث والوقائع حية و مستمرة .
الفصل الأول
الغارة على تونس
في أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان، وتحديداً في كانون الأول 1983 وجدت منظمة التحرير الفلسطينية نفسها في واقع سياسي وتنظيمي مشتت بعد خروجها من طرابلس، وتعثرت كل الجهود والحوارات التي أعقبت هذا الخروج لتوحيد الصفوف بين قيادة رئيس المنظمة ياسر عرفات وبين " المنشقين " الأمر الذي أدى إلى توزيع قوات " فتح " بين دمشق وتونس وبعض الأقطار العربية الأخرى . وقد تلا ذلك انشقاق في جبهة التحرير الفلسطينية قادة أبو العباس، نائب الأمين العام للجبهة، تنظيمياً وسياسياً وعسكرياً، ويتمتع بشعبية داخلها مما جعل معظم أفراد ومسؤولي هذا التنظيم يغادرون معه إلى تونس .
وقد عرف أبو العباس قبل هذا التاريخ بتخطيطه عمليات عسكرية مميزة وناجحة داخل الأراضي المحتلة مثل عملية نهاريا 1974، والطائرات الشراعية التي استهدفت مصفاة النفط الإسرائيلية في حيفا عام 1981 . وهى العملية التي أحدثت صدمة كبرى لدى القيادة الإسرائيلية في حينه . إذ استطاعت الطائرات الشراعية اختراق الحواجز الأمنية والتسلل جواً إلى العمق الإسرائيلي . وفى ظل تلك الانشقاقات والخلافات الداخلية على الساحة الفلسطينية، انعقد المجلس الوطني الفلسطيني في دورته السابعة عشرة في عمان ما بين 22 – 28 تشرين الثاني 1984، وتبعه توقيع اتفاق عمان في أوائل 1985 . وما أثاره هذا الاتفاق من جدل على الساحة الفلسطينية والعربية، وفي هذا الوقت بالذات في كانون الثاني1985، اتخذت القيادة الفلسطينية قراراً بتصعيد الكفاح المسلح داخل الأراضي المحتلة، وبضرورة عودة المقاتلين إلى لبنان . وقد شمل هذا القرار " فتح " والتنظيمات الأخرى، وسرعان ما بدأ الرجال في التخطيط ثم التنفيذ فأبحرت في نيسان 1985 الباخرة الفلسطينية التي كانت تقل 28 مقاتلاً فلسطينياً من قاعدة بحرية فلسطينية في إحدى الدول العربية وتبادلت إطلاق النار في عرض البحر مع الزوارق الحربية الإسرائيلية حيث استشهد في هذه العملية عشرون مقاتلا واسر ثمانية . وقد قام الشهيد أبو جهاد بإعداد الباخرة وتدريب المقاتلين في إحدى القواعد البحرية الفلسطينية بهدف ضرب وتدمير قيادة الأركان الإسرائيلية .
إلا أن السفينة اكتشفت في عرض البحر وتمت مهاجمتها من قبل الزوارق الحربية الإسرائيلية . وعلى الرغم من كل ما قيل ويقال حول هذه العملية الجريئة، إلا أنها بقيت لغزاً إلى الآن وتضاربت الأقوال حولها فالبعض يقول إنها وصلت إلي الساحل الفلسطيني وجرى قتال على أرض فلسطين، بينما يقول آخرون أن الاشتباك وقع في عرض البحر .
ولكن الثابت أن الباخرة قامت بعدة مناورات قبل تنفيذ العملية ووصلت إلى الساحل الفلسطيني قبل مشوارها الأخير . وعلى ما يبدو فقد طرأ عليها خلل في اليوم المذكور أو " ساعة الصفر "
وربما لعبت الصدفة أو سوء الطالع دوراً في اكتشاف أمر الباخرة. ويقول أحد المحللين العسكريين أن الأقمار الصناعية الأمريكية قد اكتشفت الباخرة في عرض البحر وقامت الولايات المتحدة الأمريكية بإعلام العدو الصهيوني بأمر الباخرة. وقد حققت هذه العملية أهدافاً سياسية ومعنوية، حيث ثبتت قدرة المقاتل الفلسطيني على الوصول إلى هدفه داخل الأراضي المحتلة رغم بعده آلاف الأميال عن الساحة الرئيسية للصراع، مما ولد دفعاً معنوياً لدى المقاتلين الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون مرارة البعد عن ساحة المعركة. كما شكلا دافعاً قوياً لدى أبو العباس الذي بدأ يخطط لعملية بحرية مشابهة، وان اختلفت في بعض تفاصيلها، وبالرغم من انشغاله آنذاك بالحوارات مع طلعت يعقوب وعلى عزيز، إلا أن تعلقه بالبحر وبالسفينة بدأ واضحاً من خلال العمليات البحرية العديدة التي خطط لها قبل الخروج من بيروت .
وقبل أن يستقر رأى أبو العباس على " أكيلي لاورو " كان قد قام بعدة استطلاعات في مالطة ودول أفريقية ساحلية تقيم علاقات مع إسرائيل، وقد رشح لمهمته أحد رجاله من ذوى البشرة السوداء، إلا أن هذه الخطط استبعدت وتمت الموافقة على " أكيلي لاورو " .
وخلال تموز 1985 وصلت الحوارات إلى طريق مسدود، وفشلت كل الصيغ التوفيقية، وأمام ضغط التنظيم اضطر أبو العباس إلى الإعلان عن عقد المؤتمر السابع لجبهته في 5 أيلول1985 .
معلومات خطيرة
كانت الساعة
تشير إلى السادسة مساء عندما دخل ياسر عرفات قاعة المؤتمر في معسكر وادي الزرقاء
الذي يبعد عن تونس العاصمة حوالي 100 كيلومتر، وكان من المقرر أن يفتتح المؤتمر
العام السابع لجبهة التحرير الفلسطينية في الساعة الخامسة مساء، ولكنه وصل متأخراً
وسط إجراءات أمنية مشددة وغير عادية . فدخل القاعة التي غصت بالمؤتمرين وبعدد كبير
من رجال الصحافة العربية والأجنبية والوفود الصديقة من حركات التحرر العالمية،
واستقبل بالتصفيق الحاد.
استمع عرفات إلى كلمات الوفود الصديقة والعربية ثم إلى كلمة أبو العباس، الذي كان
يبدو سعيداً بنجاح مؤتمره حيث تم انتخابه من قبل أعضاء الجبهة أميناً عاماً ولم
يدرك أحد آنذاك أن هذا الرجل الذي كان يتحدث عن جبهته والساحة الفلسطينية بهدوء
وثبات، سيصبح بعد شهر واحد لغزاً محيراً تتحدث عنه وكالات الأنباء العالمية . كما
لم يلاحظ أي من الموجودين ذلك الشاب الأسمر البشرة النحيف والمتوسط القامة والذي لا
يتجاوز الخامسة والعشرين من العمر، يقف قريبا من المنصة، خافياً مسدسه بذكاء ولا
تبدو عليه سمات المرافق . وقد يكون إبراهيم سلمان نفسه لم يفكر في تلك اللحظة بأنه
سيخوض حرب مخابرات في قصة من أخطر قصص الحرب السرية بين المخابرات الفلسطينية
والموساد. وكانت عينا سلمان ترقبان الحضور بحذر، وعادة يشعر المرافق بالتوتر والقلق
في مثل هذه اللقاءات والمؤتمرات مهما بلغت الاحتياطات الأمنية، فالمفاجآت غير
السارة واردة في أية لحظة .
وأخيراً وقف عرفات وألقى كلمة تحدث في بدايتها عن تأييده للمؤتمر، ثم انتقل بسرعة إلى قضية حساسة وقال : " لقد وصلتنا معلومات من جهات صديقة مفادها أن مجلساً وزارياً إسرائيليا مصغراً قد اجتمع وقرر أن تشن إسرائيل غارة جوية على مقرات منظمة التحرير الفلسطينية " .
وأضاف : " وفى طريقي إلى هنا تحدثت مع المسؤولين التونسيين وأبلغتهم بالموضوع، فأعلنوا حالة الاستنفار في الجيش التونسي " . ثم واصل حديثه عن الأوضاع السياسية وخصوصا اتفاق عمان وضرورة مواصلة التحركات السياسية لعقد المؤتمر الدولي للسلام .
وكان واضحاً أن حديث عرفات بدا مستعداً لدى الكثيرين، فمسألة وصول الطائرات الحربية الإسرائيلية إلى تونس ليست سهلة من الناحية العملية، إلا أن مسحة من الرهبة سيطرت على القاعة، وكان التساؤل الوحيد الذي يدور في ذهان الحاضرين : هل يمكن أن تصل الطائرات الإسرائيلية إلى هذا المكان ؟ !
وتناقلت وكالات الأنباء حديث أبو عمار. وكانت هذه المعلومات بحوزة المخابرات الفلسطينية قبل عشرين عاماً من عملية لارنكا التي اتخذتها إسرائيل ذريعة لقصف مقر منظمة التحرير في حمام الشط ، وهو ما يؤكد أن عملية لارنكا كانت مجرد ذريعة . أما نية العدوان فميتة وجاهزة في انتظار التوقيت المناسب . تماماً كما حصل في الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 عندما اتخذت إسرائيل من اغتيال السفير الإسرائيلي أرجوف في لندن ذريعة لهذا العدو. وقد غطت أحداث لبنان آنذاك على السبب المباشر في الغزو، أي محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي الذي أصيب بشلل وأصبح مقعداً بعد العملية، إلا أن هذه العملية التي تردد أبو نضال خطط لها كانت من ضمن عدة عمليات كان – كما تردد أبو نضال يخطط لها فضلاً عن قائمة شملت عدة أسماء .
إلا أن نبيل الزملاوي، مدير مكتب المنظمة في لبنان، آنذاك كانت مفاجأته أكثر من الجميع عندما اكتشف بعد عملية اغتيال أرجوف أن الشاب مروان الذي يرتبط بعلاقة قرابة مع صبري البنا (أبو نضال) وتحديداً ابن أخته، كان أحد مرافقيه وكان كثيراً ما ينوب عنه ويمثله في المهرجانات السياسية في بريطانيا، ولم يدرك حقيقة انتمائه إلا بعد الحادث إذ تبين أن مروان كان أحد الذين نفذوا عملية اغتيال السفير الإسرائيلي وكانت لدى المخابرات الفلسطينية قبل الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 بشهور معلومات حول الحشود والاستعدادات الإسرائيلية للعدوان الذي خطط له أرئيل شارون .
في لارنكا
فجر يوم 25
أيلول 1985 اقتحم ثلاث مسلحين اليخت " فيرست " في ميناء لارنكا القبرصي حيث قتلوا
امرأة واحتجزوا رجلين رهينتين مطالبين بالإفراج عن 20 معتقلاً فلسطينياً في السجون
الإسرائيلية . وقد انتهت هذه العملية باستسلام الفدائيين الثلاثة ومن بينهم أيان
ديفيسون البريطاني، بعد مقتل الإسرائيليين الثلاثة، الذين كانوا أعضاء في جهاز
المخابرات الإسرائيلية
الموساد وكانت بينهم امرأة أصبحت معروفة في الموساد ومن ألمع الجواسيس الإسرائيليين
.
وكان هؤلاء الإسرائيليين الثلاثة يشكلون وحدة تجسسية تقودها المرأة التي عملت في اليخت باسم " أستر بولزار " واسمها الحقيقي سيلفيا رافائيل واستعملت أثناء خدمتها في الموساد أسماء عديدة مستعارة وجوازات سفر مزيفة .
وكانت مهمة سيلفيا رصد تحركات الفلسطينيين في قبرص، عبر عميل للشبكة يدعى مصطفى صبرا، لقي حتفه عندما قررت " القوات 17 " تصفية هذه الشبكة . وقبل هذه العملية بشهور، قامت الزوارق الحربية الإسرائيلية باعتراض العديد من السفن التجارية التي كانت تقل مجموعات فلسطينية متوجهة من قبرص إلى لبنان، وكانت مهمة صبرا استدراج الفلسطينيين إلى سفن معينة ومعروفة تلك التي يستخدمونها للعودة إلى لبنان وإعلام إسرائيل عنها مما أدى إلى اعتقال العديد من المقاتلين والكوادر الفلسطينية من خلال اعتراض السفن اللبنانية والقبرصية . أما سلفيا فكانت مطلوبة لدى المخابرات الفلسطينية نظراً للجرائم العديدة آتى ارتكبتها، ولعل أهمها جمع المعلومات وتسهيل دخول فريق اغتيال من الموساد إلى بيروت لتفخيخ السيارة التي تم بواسطتها اغتيال أبو حسن سلامة قائد " القوات 17 " في 22 يناير ( كانون الثاني ) 1979 .