إذا أردنا أن نتحدث عن التعليم في بيروت، كما كان عند بداية القرن التاسع عشر، فلن نجد أفضل ولا أطرف من الصورة القلميّة التي تركها لنا أحد أبناء هذه المدينة الرحالةأسعد يعقوب الخيّاط المولود سنة 1811م الذي روى حكاية نشأته الأولى في مذكرات نشرها في مدينة لندن سنة 1847م باللغة الإنكليزيّة تحت عنوان صوت من لبنان (A Voice from Lebanon) التي نقلها الدكتور فيليب حتّي إلى العربيّة في مجلة الكليّة الصادرة في الجامعة الأميركيّة ببيروت (عدد 4 المجلّد8، شباط 1923م) وقدّم كاتبها أسعد الخيّاط المذكور على أنه (أعظم رحالة وأول مهذب سوري في القرن التاسع عشر).
فقد وصف أسعد يعقوب الخيّاط المدرسة التي دفعه إليها أبوه في بيروت وهو إبن خمس سنين والأستاذ الذي تولّى تعليمه في هذه المدرسة وأسلوب هذا الأستاذ في التدريس والغاية من الدراسة في زمانه. كل ذلك وصفه لنا الخيّاط بقوله: (.. أما والدي فكان جُلّ إهتمامه مصوّباً نحو تهيئة الوسائل لتهذيبي وتثقيفي وكان المثل الأعلى الذي يتمنَّاه لي أن أكتسب من العلوم ما يؤهّلني لدخول الدير، والإندماج في سلك رجال الدين أو من النزوح إلى بلاد الإفرنج والنجاة من الأخطار المحدقة بنا. وفي سبيل هذه الغاية أرسلني والدي إلى سليم باسيلا بائع الدخان، لأتعلم القراءة. وكان سليم يقضي النهار بطوله والغيلون في فمه، وكان دخانه دوماً يكتنف وجهي فكأنما الرجل أراد تحويلي إلى لحم مقدَّد. ولو كانت السُّلطة عليَّ محصورة في معلمي سليم، لما كان في الأمر بأس ولكن امرأة سليم أيضاً كان لها عليّ بعض السلطة ـ بحق الشفعة ـ فكانت مراراً تبعثني لجلب المياه وإذكاء النار ومراقبة الطعام: دخان من تبغ المعلم في الدكَّان، ودخان من طبخ المعلمة في البيت، تلك كانت خلاصة حياتي المدرسيّة) !.
إذن، الأستاذ في بيروت في بداية القرن التاسع عشر كان بائع السجاير أو غير السجاير، والمدرسة كانت الدكان التي يعمل فيها هذا البائع. وعند اللزوم وغالباً ما كان هذا اللزوم وارداً، فإن زوجة صاحب الدكان أو أيّ واحدة من قريباته المسنّات، كانت تشكل معه ما يُسمى اليوم بالهيئة التعليميّة. أما منهاج الدراسة وطريقة التدريس في ذلك الزمان فإن ذلك الرحالة حدثنا عنهما في مذكراته بقوله: (... جاء الغد، فتفرَّست فيما أراد أن يكتبه ـ أي المعلم ـ فتمتم ما ملخصه:
ـ أن جاء خطي اليوم قبيحاً فغداً يتحسَّن.
فسألته: أين الباء يا معلمي ؟
ـ فأجاب: قبل التاء.
ـ وأين التاء...
ـ بعد الباء.
ـ إذن، أين الباءُ تاء؟ عندئذٍ إنتهرني قائلاً: تلك مسألة عليك أن تحلها لنفسك، وأنصرف!).
وبهذا الحوار بين أسعد يعقوب الخيّاط وبين أستاذه بائع الدخان سليم باسيلا عرفنا كيف كانت المدرسة والمعلم وطريقة التدريس عندما كانت بيروت ما تزال تغطُّ في غفوتها العميقة على وسادة التقاليد الماضية، قبل أن تهزها الحضارة الأوروبيّة بصدمتها العسكريّة وتفتح عيون أبنائها الخمسة آلاف على وهج إشراقة المدينة الحديثة التي بزغت على ربوع الشرق العربي مع إطلالة السنوات الأولى من القرن التاسع عشر للميلاد.
وهنا، لا بد من القول بأن الدكَّان وأمثال سليم باسيلا بائع الدخان وزوجته كانوا في ذلك الحين، يؤلفون ما نُسميه اليوم المدرسة والأستاذ وسائر أفراد الهيئة التعليميّة. وكان ذلك الوضع عاماً بالنسبة إلى المجتمع البيروتي يومذاك بسائر طبقاته الإجتماعيّة ومختلف طوائفه الدينيّة: المسلمون والنصارى في ذلك سواء بسواء.
وما قاله أسعد يعقوب الخيّاط الذي عاصر البدايات الأولى للتعليم العصري في بيروت قال مثله الأديب البيروتي حسن فرّوخ في محاضرته التي ألقاها سنة 1947م في الندوة اللبنانيّة وموضوعها النهضة العلميّة في لبنان في مطلع القرن العشرين، قال هذا الأديب وهو يتحدث عن بيروت في القرن التاسع عشر:
(... لقد كان التعليم فيها في مستهل القرن التاسع عشر قليلاً ومنحطاً جداً، إن ثمة بضعة مراكز للتعليم يقوم في كُلٍّ منها رجل نصف أمّي يعلّم عدداً من الصبية حروفاً كانت تُسمى كتابة، وأرقاماً كان يقال لها حساب. وثمة أوراق من كتابة أولئك المتعلمين تلوح في مجموعة متنافرة من الحروف المتراكة والأرقام الملتوية ولا حاجة إلى القول إنها مزيج من الأخطاء والأغلاط...).
وإننا نرجو أن لا نفاجئ أحداً من أبناء زماننا إذا ذكرنا بهذه المناسبة بأن هذا النوع من المدارس والمعلمين، بقي سائداً ومعروفاً في بيروت منذ ذلك الحين حتى أواخر العقد الثالث من القرن العشرين. وهناك العديد من أبناء هذه المدينة الذين أدركوا هذا العقد، قد تلقوا علومهم في نشأتهم الأولى، أو بلغة ذلك الزمان، فكَّوا الحرف في تلك المدرسة (الدكّان) على يد البائع (الأستاذ) وكانت تلك المدرسة تُعرف باسم (الخوجاية) وذلك نسبة إلى مديرها وصاحبها الذي يُدعى (الخواجا)، والخواجاية والخواجا كلمتان تركيتان تقابلهما باللغة العربيّة (الشيخة والشيخ) وهذا الإصطلاح باللغتين العربيّة والتركيّة بقي مستعملاً ودارجاً على ألسنة البيروتيين حتى عهد قريب.
والخواجاية أو الشيخة هي عبارة عن تلك الكتاتيب الصغيرة التي كان يفتحها أشباه المتعلمين الذين جعلوا من بيوتهم أو دكاكينهم التجاريّة مدارس بدائيّة يستقبلون فيها الصبيان حيث يلقِّنوهم مبادئ القراءة والكتابة مع مبادئ أوليّة في علم الحساب إلى جانب الخط العربي. وإذا كان المعلم مسلماً ركّز إهتمامه على تعليم صبيانه تلاوة القرآن الكريم وحفظه وإذا كان نصرانيّاً كان إهتمامه ينصب على تعليم هؤلاء الصبيان قرءاة الإنجيل المقدّس وحفض بعض مزاميره.
أما الموسرون من البيروتيين الذين يرغبون في إعطاء أبنائهم المزيد من ألوان الثقافة والمعرفة فإنهم كانوا يرسلونهم إلى الأديرة إذا كانوا من النصارى، وإذا كانوا من المسلمين فإنهم يرسلونهم إلى القاهرة للالتحاق ـ أو المجاورة ـ بالجامع الأزهر الشريف حيث يطلبون العلم على شيوخ هذا الجامع الذي يُعتبر أقدم المؤسسات التعليميّة الإسلاميّة التي ما تزال باقية حتى الآن.
وفي تلك الحقبة من الزمان لم يكن العلم غاية في ذاته. فلقد رأينا أن والد الرحالة أسعد يعقوب الخيّاط كان مثله الأعلى أن يتمكن إبنه من إكتساب بعض العلوم التي تؤهله لدخول الدير تمهيداً لإنخراطه في جهاز الكهنة ليصبح في المستقبل في خدمة الكنيسة والذين يتعبّدون فيها من أهل ملَّته أو أن يتعلم (لساناً) أجنبيّاً يستعين به إذا هاجر من بلده إلى بلاد الأجانب. وكذلك فإن الرجل المسلم كانت غاية أمله من تعليم إبنه أن يعدّه ليكون في مستقبل حياته شيخاً متعمِّماً يحظى بإحترام المسلمين ويحصل على وظيفة دينيّة في أحد المساجد لأداء خطبة الجمعة وإمامة المؤمنين في صلواتهم الخمس. ولم يكن لأي بيروتي في ذلك الحين غاية وراء ذلك من قريب أو بعيد.
وفي ذلك الزمان، كان الرجل في بيروت إذا إسلم ولده إلى عهدة معلم الكتَّاب في دكانه أو بيته، يلقي على كاهله كل همّ يتعلق بهذا الولد الذي هو فلذة كبده، ويودّع المعلم قائلاً له بكل سذاجة وإطمئنان: (هذا ولدي، قد وضعته تحت تصرفك وبين يديك فقد أصبح إبنك ولم يعد إبني وليس لي عندك وصيّة بشأنه إلا كلمة واحدة : خذ اللحم وأعطيني العظم).
وبالفعل فإن معلمي الكتاتيب في تلك الفترة ما كانوا ليخُلِفوا ظن الآباء في تنفيذ وصيتهم بأبنائهم. فلقد كانت العصا الطويلة في يد المعلم جاهزة لأن يُلهب بها أكفَّ الأولاد وأرجلهم وأقفيتهم كلما كان ذلك ضروريٍّا لإقناع هؤلاء الأولاد بالتفريق بين الباء والتاء ومعرفة عدد النقط ومكانها بالنسبة إلى كل حرف من حروف الهِجاء المكتوبة أمامهم على لوح من الخشب أو الصفيح المدهون باللون الأسود.