إن الطوائف النصرانيِّة في بيروت وجبل لبنان تهيأ لها الإحتكاك بالحضارة الغربيّة الحديثة قبل المسلمين بزمن غير قليل. وكان ذلك أمراً طبيعيّاً ومنطقيّاً. ذلك أن بين نصارى الغرب ونصارى الشرق وحدة حال من الناحية الدينيّة وهذا الأمر أدى بصورة عفويّة إلى وجود رابطة إجتماعيّة وثقافيّة بين الطرفين وهو ما أثمر على المستوى التعليمي إلى مبادرة النصارى المحليين إلى محاكاة نظرائهم في الدين الغربيين في أسلوب إنشاء المدارس على الطريق الأوروبيّة العصريّة. وأول مدرسة أهليِّة أنشأها النصارى في بيروت من هذا القبيل كانت المدرسة التي أنشأها الرحالة أسعد يعقوب الخيَّاط في العقد الرابع من القرن التاسع عشر على أثر إستعادة الأتراك العُثمانيين لمدينة بيروت بمعاونة حلفائهم من الإنكليز والنمساويين في أواخر أيلول سنة 1840م، وهذا ما أكده أسعد المذكور نفسه حيث قال في مذكراته التي نشرها سنة 1847م وجعل عنوانها (صوت من لبنان) التي ترجمها من الإنكليزيّة إلى العربيّة ميخائيل صوايا: (استولى الإنكليز على بيروت ... فرجعنا إلى بيتنا ... فأسست مدرسة، وما كادت تفتح أبوابها حتى إمتلأت .. كان فيها خمسة وعشرون صبياً وسبع بنات، يتلقنون القراءة والكتابة والحساب والدين (يقصد الدين المسيحي) وكان من بين هؤلاء أميرة درزيّة صغيرة (؟) وبعض الصبية من المسلمين (؟) لقد كانت مدرسة حرّة، ولو ملكت الوسائل اللازمة لبلغ عدد تلاميذها المائة).
وفي الترجمة التي وضعها الدكتور فيليب حتّي لهذه المذكرات ونشرها في مجلة (الكليّة) في شباط 1923م نقل عن أسعد خيَّاط قوله، بصدد هذه المدرسة: (أول عمل باشرته (أي بعد عودته إلى بيروت على أثر إخراج المصريين منها سنه 1840م) هو تأسيس مدرسة مجانيّة للذكور والإناث كان يلازمها 25 صبيّاً وسبع بنات. وسمحت لطالبين أن يقيما في بيتي الخاص وهما عبد الله بر عرمان وإبن بشّور وأرسل اليَّ صديق من دمشق ولدَيْ أخيه بطراجي زخريا وموسى طنّوس فقبلتهما في بيتي أيضاً ... ولكن اضطراب الأحوال ألجأنا إلى الجلاء عن بيروت فنزحنا إلى مار جرجس الحرف ـ من قرى المتن ـ ).
ولم يكن أسعد الخيَّاط يكتفي بتعليم تلاميذه في بيروت، بل هو أراد تخريج النابهين من هؤلاء التلاميذ في المدارس الأجنبيّة في البلاد الأجنبيّة نفسها من أجل التخصص. وبالفعل فإن أسعد الخيّاط نجح في إيفاد بعض تلاميذه إلى إنكلترا للتخصّص في مدارسها العالية... فهو يقول: (بفضل خطبي ومساعيّ تمكنت اللجنة من إيفاد نحو خمسة عشر طالباً في المدارس الإنكليزيّة إلى أن أنهوا دروسهم و33 إلى أن نالوا شيئاً منها. ولكن الصعوبات كانت تزداد استحكاماً ولم يكن لي قِبَل على إحتمال بعضها، فالرجل الذي تعهد بتهذيب أربعة من الطلبة السوريين على نفقته رفض البِرّ بوعده ما لم أدخل في جمعيّته).
وسنداً لما جاء في مذكرات أسعد يعقوب الخيّاط ، تكون بيروت قد عرفت أول مدرسة أهليِّة نصرانيِّة هي تلك التي إفتتحها هذا الرحالة سنة 1840م يضاف إلى ذلك أن أول بعثة دراسيّة قصدت بلاد الإنكليز كانت مؤلفة من طلاب هذا الرحالة أيضاً. وجدير بالذكر أن أسعد يعقوب الخيّاط كان يعتبر إنشاء المدارس وتهذيب الناشئة من مبادئه التي يؤمن بها ويعمل على تحقيقها، فهو يقول في مذكراته (مبادئي) : وكانت مبادئي التي نشرتها ودعوت القوم لها تنحصر في نقاط أربع :
1. إنشاء المدارس الوطنيّة لتهذيب أبناء سوريا وترقيتهم.
2. تثقيف النساء وتربيتهن على أصول أدبيّة.
3. الإعتماد على الوطنيين ـ لا الأجانب ـ في نشر المعارف وتنمية العقول.
4. تعزيز فنّ الطب.
ويشير الخيّاط في مذكراته إلى أنه زاد سروره (أن المطران أنشأ في بيروت مدرسة أخذت تعلّم العربيّة واليونانيّة والفرنسيّة والإيطاليّة). ونحن لا ندري أي مطران هو الذي يعنيه الكاتب وربما كان المقصود مطران الروم الأرثوذكس، ويقصد بالمدرسة (مدرسة راهبات المحبة) للبنات التي تأسست في بيروت سنة 1856م وكانت أول مدرسة فتحت أبوابها للإناث في هذه المدينة، أو مدرسة ( مار يُوسُف الضهور) التي افتتحت في بيروت سنة 1847م وكانت مخصصة للبنات أيضاً في أول أمرها.