صحافة المهجر أم صحافة المنفى ؟
للكاتب والصحفي الكبير رياض نجيب الريّـس من كتابه { قبل أن تبهت الألوان }
كلمة ألقيت في ندوة مغلقة عن الصحافتين العربيِّة والبريطانيِّة عقدت في لندن
يوم الثلاثاء في 21 أيار عام 1985
بدعوة من مجلس تعزيز التفاهم العربي ـ البريطاني { كابــو }
أرى نفسي في موقف لا أحسد عليه، ألا وهو تفسير ظاهرة تتكر كل مائة عام أو نحوها، وهي هجرة الصحافة العربيِّة إلى أوروبا. ويبدو من الصعب على شخص مثلي، على الأقل في هذه المرحلة، أن يخوض في أبعادها التاريخيّة. ولذلك سأقتصر في كلامي على شرحها كما هي، ولماذا كانت كذلك، وكيف أخفقت في أن تصبح وسيلة للتفاهم بين مجموعتين مهنيتين من الصحافيين. وإنني لعلى ثقة في أنكم ستبادرون إلى تحريك ذاكرتي بأسئلتكم ومساهماتكم فيما بعد.دعوني أولاً ألفت النظر إلى ظاهرة أساسيّة غفل عنها الكثيرون في هذه البلاد. فقد ازدهرت خلال السنوات العشر الماضية صحافة عربيّة في بريطانيا. وهذه الصحافة ليست بصحافة مهاجرة ولا لاجئة في منفى، وإنما هي صحافة مهنيّة كأي صحافة أخرى موجودة في العالم.
الفرق الوحيد هو أنها تصدر خارج حدودها الجغرافيّة الطبيعيّة. وهي في هذا المجال تبدو فريدة في نوعها من حيث شموليتها، لذلك أنها الصحافة {القوميّة} المهنيّة الوحيدة التي تخاطب العالم العربي برمته، وذلك ما يميزها عن الصحف {الإقليميّة} التي تصدر في كل بلد عربي على حدة. وهكذا، فإن هذه الصحافة المهاجرة، بتعدديتها وأبعادها القوميّة، تخدم أغراضاً يبدو العالم العربي في أشد الحاجة إليها، كما أنها تسد الفراغ الناتج عن اختفاء الصحافة اللبنانيّة التي كانت آخر صحافة عربيّة قوميّة من نوعها. أما بالنسبة لنوعيتها، فيمكنني أن أقول من زاوية ذاتية بأن بعضها يوازي في جودته المطبوعات المشابهة في بريطانيا وفرنسا. وبعضها الآخر يضاهي بعض المطبوعات الغربيّة في ردائتها.
ويبدو من الضروري في هذا المجال، أن أسارع إلى القول بأن الصحافة العربيِّة في أوروبا ليست صحافة أقليات، كما هو الحال بالنسبة لصحف الأقليات القوميّة والعرقيّة الموجودة في بريطانيا، والتي تصدر مطبوعاتها المحليّة الخاصة بها كالصحف : الهنديّة والباكستانيّة والصينيّة والكاريبيّة والبولونيّة، والتي يتوقف غرضها الأساسي على خدمة المجموعات المحليّة التي تمثلها في بريطانيا.
أغلبية الصحف العربيِّة الصادرة في أوروبا لا تنتمي إلى هذه المجموعة من المجلات والصحف. ومن المحتمل أن لا يدرك أي قارئ لهذه الصحافة العربيِّة البلد الذي صدرت منه لولا عنوانها ورقم هاتفها. ذلك أن هذه الصحافة لا تضع في رأس اهتماماتها القوميّة الشاملة خدمة الجالية العربيِّة المقيمة في بريطانيا والتي تحتاج إلى من يعالج شؤونها، ولا تعترف كذلك بأن هذه الجالية تشكل جزءاً من التعددية السكانيّة في بريطانيا. ويرجع هذا الموقف إلى أربعة عوامل رئيسيّة :
1. إن الجالية العربيِّة لا تعتبر نفسها مجموعة مهاجرة امتدت جذورها هنا في بريطانيا بصورة نهائيّة وقطعت صلاتها بوطنها الأصلي، وراحت تشارك بشكل أو بآخر في النشاطات المتعددة للمجتمع البريطاني أو ترتبط بها أو تكتسب هوياتها.
2. لقد عُرف عن العرب أنهم يحملون معهم أنّى ذهبوا، انتماءاتهم وانقساماتهم السياسية التي درجوا عليها وعرفوها في أوطانهم. ورغم أن هذا يجعل منهم {مخلوقات سياسية} من الصنف الأول، فإنه يبعدهم، عن معايشة التيارات السياسية السائدة في موطن إقامتهم.
3. قد تكون الجالية العربيِّة موسرة بدرجة كافية، ولكنها ليست بذلك العدد الذي يكفي لمساندة جريدة تعنى بصورة أساسيّة بشؤونها المحليّة.
4. إن بريطانيا بالنسبة للصحافة العربيِّة هي مقر إقامة مناسب لا غير. ولهذا كان الغرض من وجودها هنا أن تصبح بضاعة للتصدير إلى الخارج، ضمن محاولات للتأثير في القرار السياسي العربي وفي توجيه الرأي العام العربي، ولذلك فإنها لا تطمح إلى التأثير في أي قرار سياسي بريطاني.
5. الواقع أن الصحافة العربيِّة وفدت إلى لندن وباريس بسبب الموقف السياسي المضطرب في كثر من البلدان العربيِّة، ولا سيما لبنان. ولعل وجودها هنا في لندن، وليس في أي مكان آخر، جاء من قبيل الصدفة التاريخيّة لا غير. صدفة الثقافة واللغة والتعليم والماضي الاستعماري. ولم يحل كل ذلك دون قيام كثير من العرب في السنوات الماضية بنشر صحفهم من روما أو قبرص أو أثينا، ولأسباب تعود بصورة لرئيسيّة إلى القرب الجغرافي من العالم العربي.
في لندن الآن عدد كبير من الصحافيين العرب العاملين سواء في الصحافة العربيِّة الصادرة في بريطانيا، أو كتّاباً ومراسلين لصحف ومجلات تصدر في دول أوربيّة أو عربيّة مختلفة. هذه المجموعة من الصحافيين التي ينتمي أكثرها إلى نقابة الصحافيين الوطنيّة أو لجمعية مراسلي الصحافة الأجنبيّة في بريطانيا، تشكل قوة تتجاهلها كلياً الصحافة البريطانيِّة والمؤسسات السياسية في المملكة المتحدة.
ربما تستطيع الصحافة البريطانيِّة أن تتجاهل الصحافة العربيِّة في بريطانيا. بيد أن الصحافة العربيِّة تفعل ذلك مجازفة منها، مع أن الصحافتين تصدران من الشارع نفسه وتشتركان في الوسائل نفسها وتتعاملان مع النقابات نفسها. ومع أن الكثيرين من الصحافيين البريطانيين هم معروفون حق المعرفة لدى القراء العرب، فإن العكس غير وارد في هذا المجال. وذلك لأن الصحافة العربيِّة تشعر بعقدة نقص عند مقارنتها بالصحافة البريطانيِّة. فالاعتقاد السائد هو أن الصحافة البريطانيِّة تتمتع بحرية التعبير التي حرمت منها الصحافة العربيِّة، وإنها في هذا المجال أفضل منها مناخاً وموقعاً. وقد يبدو السبب الأول صحيحاً بكل تأكيد، أما الثاني فمشكوك فيه. ولهذا نلاحظ وبنتيجة هذا الشعور بمركب النقص. إن عدداً من الصحافيين البريطانيين البارزين يكتبون أحياناً وبصورة منتظمة في عدد من الصحف والمجلات العربيِّة الصادرة في لندن {بالطبع عن طريق الترجمة} ويعلّقون على مشاكل الشرق الأوسط، في الوقت الذي لا أعرف فيه صحافياً عربياً واحداً دعته صحيفة أو مجلة بريطانية للكتابة فيها {بالإنكليزيّة}، اللهم إلاّ في حالات نادرة.
في محاولة للتعرف على أسباب هذا التجاهل، نرى أن الصحافة البريطانيِّة لا تعرف أو لا تشعر بأن هناك صحافيين عرباً يتواجدون خارج نطاق حفلات الكوكتيل واستقبالات السفارات الأجنبيّة. ذلك لأنها تعاني بدورها أيضاً من عقدة التفوق وأوهام الاكتفاء الذاتي، ولأنها تتخذ موقفاً متعالياً من كل ما هو غير بريطاني. إنها تعتقد بأنها أكثر دراية بشؤون العالم العربي، وبدون أن تحتاج إلى الاستئناس برأي صحافي عربي أو الاستفادة من خبرته حيث توجد. والأدلة على ذلك كثيرة. ففي البرامج الأخباريّة التليفزيونيّة والإذاعيّة مثلاُ، عندما يأتي استعراض لأزمة أو تقارير تتعلق بالشرق الأوسط، فكل ما تتفتق عنه مخيّلة هيئة الإذاعة البريطانيِّة {بي.بي.سي.} أو التلفزيون المستقل {أي.تي.في.} عادة للتعليق على الموضوع، هو دعوة أستاذ مغمور من جامعة إقليميّة مغمورة قد لا يتعلق اختصاصه بالضرورة بموضوع البحث، وربما لم يمر منذ أيام تخرجه على مسرح الحدث. وقلما نرى صحافيّاً عربياً ممن يعرفون مسرح الحد وأبطاله وخلفياته يُستدعى للإدلاء برأيه في مثل هذه البرامج.
أما نظام التزويد بالمعلومات المتعارف عليه تقليدياً بين وزارة الخارجية والصحافيين البريطانيين فإنه غير قائم كلياً مع الصحافة العربيِّة، وإذا حصل، فإنه غير كاف وغير جدي. وهذه التفرقة المتعمدة بين نمطي مستوى تزويد المعلومات أمر يدركه كل صحافي عربي عندما يحاول الحصول على معلومات سواء من وزير دولة أو رئيس مؤسسة أو موظف صغير. وبودي لو أعرف كم من الصحافيين العرب استطاع الحصول على موعد من وزير في الدولة ينوي زيارة بلد عربي أو عند عودته منه. إن فرصة مقابلة صحافي لموظف أو مسؤول بريطاني له وزنه السياسي تكاد تكون شبه منعدمة. وقبل أن ننسى، لا بد من الإشارة إلى أنه لا يوجد مراسلون عرب للوبي البرلماني معترف بهم لدى مجلس العموم، وأن تسعين في المائة من نواب البرلمان ـ بمن فيهم من له علاقة بالمجموعات البرلمانيّة المعنيّة بالعلاقات العربيِّة البريطانيِّة ـ لا يعرفون أي شيء عن وجود صحافة عربيّة قد تستطيع تقديم مساعدة قيمة لمهماتهم.
إنني أدرك كصحافي عربي كم تحرص وزارة الخارجية والمؤسسات السياسية البريطانيِّة على حراسة أسرارها. وأنا لا أريد أن أمس ذلك الجانب. ولكن بودي رغم هذا، أن أتمتع بقدر من الوصول إلى الأخبار والتزود بالمعلومات على النحو الذي يجري بالنسبة لزملائي الأوروبيين والأميركيين.
ولا يسعني بالمقابل إلا الإشارة إلى الجهود التي يبذلها كثير من الملحقين الصحافيين البريطانيين في سفاراتهم في بيروت والقاهرة وعمّان والكويت وغيرها في جريهم من مكاتب صحيفة إلى مكاتب صحيفة أخرى لمقابلة الصحافيين المحليين لتسريب خبر فات عليه الزمن ويهم حكومة صاحبة الجلالة، بينما ترى هنا في داخل بريطانيا نخبة ممتازة من الصحافيين والكتّاب والمعلقين العرب، ومع ذلك لا أحد يعبأ بأن يقول لهم أين تقف بريطانيا أو كيف تفكر حيال التطورات المختلفة الجارية في العالم العربي. وربما لم يعترفوا بنا بعد كقناة مجدية للاتصال كما هو الحال بالنسبة للصحافيين الأجانب الآخرين.
لقد طرحت يوماً هذه الفكرة متسائلاً:لِم لا يرافق صحافي عربي {أو عدد من الصحافيين العرب} وزير الخارجية البريطاني أو أي وزير بريطاني آخر ذاهب إلى بلد عربي ليغطي زيارته ويعطيها المزية المزدوجة بتغطيتها من الجانبين العربي والبريطاني ؟
بالطبع لا أحد من وزارة الخارجية يريد سماع ذلك.
وهذه فكرة ليست جديدة إذ يطبقها الأميركيون والفرنسيون. فعندما يقوم وزراء الخارجيّة الأميركيّة بزيارة الدول العربيِّة يصاحبهم عادة صحافيون عرب معتمدون لدى وزارة الخارجيّة في هذه الرحلات. وكذلك الحال مع وزراء الخارجيّة الفرنسيين الذين يصاحبهم صحافيون عرب معتمدون لدى {الكي دورسي} في باريس عندما يسافرون إلى الخارج.
ربما تتساءلون فتقولون: إذا كانت بريطانيا مجرد محطة قادت إليها الصدفة بالنسبة للصحافة العربيِّة والصحافيين العرب، فلماذا يتعين على الصحافيين البريطانيين والصحافة والمؤسسات في بريطانيا أن تعبأ بهم ؟
الجواب بسيط: أن للصحافيين البريطانيين وأصحاب الصحف البريطانيِّة أن يحولوا لندن من مجرد علم يرفع على سفينة تجاريّة، إلى مكان ضروري تنطلق منه آفاق تجربة رائدة في التعاون الثقافي والمهني لم يفكر بها أحد من قبل وليس لها نظير في ميدان الصحافة في أي مكان من العالم.
ربما تخرج الصحافة العربيِّة عندئذ من مجرد كونها ظاهرة عابرة !.