في مسألة التجديد والتمديد ؟
للكاتب والصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {آخر النهار}
نشر هذا المقال في صحيفة النهار بتاريخ 20/5/1995
قضية التمديد أو التجديد محسومة في العالم العربي، إذ يجددون للرؤساء تلقائيّاً، تماماً كما تجدد عقود الإيجار.
مرة حسمها واحد مرة واحدة فمدد له وجدّد مدى الحياة، وكفى الله النواب والأحزاب شر القتال.
في موريتانيا {زهق} الرئيس من الحكم، بعدما جُدّد له منذ الاستقلال، فقرر ألا يجدد. وتمارس ضغوط عليه الآن، حتى من أحزاب المعارضة، {كي لا يترك البلاد في بحر هائج}.
رجل السودان أسمه سوار الذهب، تولى الرئاسة إثر انقلاب، وتعهد أن يترك الحكم في يوم محدد، بل ساعة محددة.
وفعل.
أصبح بيته اليوم في السودان مزاراً، يحج الناس إليه متسائلين بشك: هل صحيح أن هناك حاكماً عربيّاً تولى الحكم بشكل {مؤقت}، ولم يقلب المؤقت ليصبح دائماً ؟.
الفرح بفوز جاك شيراك برئاسة جمهورية فرنسا، كان من أسبابه أو أحد أسبابه أن الناس هناك {زهقوا} من فرنسوا ميتران بعدما قضى في الحكم 14 عاماً كاملة حتى اللحظة الأخيرة.
كل مرة تجرى فيها معركة رئاسية في فرنسا يتجدد الحديث عن خفض مدة الولاية إلى خمس سنوات بدلاً من سبع، وعلى أن لا يجدّد للرئيس أكثر من مرة واحدة.
لماذا سقط ونستون تشرشل بعد إنتصاره الأسطوري في الحرب العالمية الثانية ؟
{الزهق}. حب التغيير، القلق من أن لا يعطي الحاكم أكثر مما أعطى إذا طال عمر حكمه.
لم تنهض البرتغال من نومها العميق في قلب أوروبا، حتى دخل حاكمها {مدى الحياة} سالازار في {الكوما}.
هناك بلاد عربيّة، لم يعد فيها التجديد أو التمديد حدثاً أو حتى خبراً، لذلك فهو لا يذكر دائماً في {وكالتها الوطنيّة الرسميّة للأنباء}.
قد يكون هذا من أسباب هذا البطء أو على الأصح الجمود الذي يصيب هذه الدول.
فالحاكم صامد جامد. وكذلك الاقتصاد والسياسة والثقافة، وفي بعض الأحيان حتى الغناء.
الكلمة المبسطة والأسهل للتطور هي التغيير.
والتغيير هو من صلب الديموقراطيّة، وإلاّ لكان فاليري جيسكار ديستان لا يزال رئيساً لفرنسا، خصوصاً أنه يحب الرئاسة وقصر الأليزيه.
وليس ضرورياً أن يكون كل حاكم يأمل الناس في تغييره، حاكماً فاسداً أو غير صالح. لكن الناس تطمح وتتطلع دائماً إلى التطور، وتنتظره {رغم خيبات أمل كثيرة} على يد الحاكم الجديد، فإذا لم يحصل، يتجدد الأمل مع الذي يليه.
لو أستمر روزفلت يجدد لنفسه، ولم يتوقف عن الحكم بالوفاة وظل حاكماً لأميركا، لانتهي الأمر به، أو بأميركا بعهد. وكي لا تتكرر تجربته، جعلوا الولاية مرتين فقط، وعدلوا القوانين والأنظمة وكلها لتقليص صلاحيات الرئيس، حتى لا تقع الولايات المتحدة الأميركيّة في قبضة رجل واحد.
السقوط الكبير للاتحاد السوفيتي ولدول أوروبا الشرقيّة، ما كان ليحدث لو لم يكن كل الحكّام هناك لمدى الحياة.
هناك أيضاً الناس {زهقوا}، فكان هذا الانفجار الذي ـ في النهاية ـ لم يطالب إلاّ بالتغيير.
الرواية {أو النكته} تقول إن فرانكو عندما استفاق للحظات من غيبوبة الموت، سأل زوجته عن سر أصوات الجماهير المحتشدة تحت أسوار القصر، فأجابته: لقد جاؤوا يودعونك. وزاد استيقاظه ليقول لها: {خير إن شاء الله ... لوين مسافرين ؟}.
يتمسك بعض الحكّام بالحكم تماماً كتمسكهم بالحياة.
خطر لزميل لنا أثناء زيارة وفد صحافي لكوريا الشماليّة أن يسأل المترجم ـ المرافق: ماذا يحصل لو مات الزعيم الخالد حبيب الملايين كيم إيل سونغ.
وهرب المرافق راكضاً بذعر، ولم بعد إلاّ في اليوم التالي وعلى وجهه ابتسامة عريضة، وقال للزميل: لقد جئتك بالجواب عن سؤالك. الجواب هو أن كيم إيل سونغ لا يموت.
لا نعرف لماذا ينسى الحاكم الحكمة الخالدة التي تقول:
{لو دامت لغيرك لما وصلت إليك}
بعضهم، أو على الأصح أحدهم، يعلقها بأحرف كبيرة في مكتبه، لكنه لا ينظر إليها، لأنه يهرب من الحقيقة.
كل ما حدث في العالم العربي من ويلات في ربع القرن الأخير، حدث لأن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مات بالسكتة القلبيّة، من غير أن يترك دولة قائمة على المؤسسات. ترك دولة كانت قائمة عليه، فأتي الراحل الآخر أنور السادات لنبدأ بـ {كامب دايفيد}، الذي انتهى بـ {أوسلو} و{وادي عربة}، والذي أنهى في النهاية وقتل كل أحلامنا من مطلع هذا القرن إلى اليوم.
طبعاً لا علاقة لما يجري في لبنان بكل هذا الكلام.
ما يجري في لبنان فتح لنا فقط جروحاً، فكان هذا الكلام.
وهو كلام كان يجب أن يقال، لأننا في العالم العربي نمر بأكبر تغيير منذ انتهاء الحكم العُثماني.
إن الأيام التي نعيشها لم تقفل على الماضي فحسب، بل إنها تحدد المستقبل ولعصر كامل على الأقل.
والصورة حتى الآن تبدو قاتمة وقاتمة جداً.