ظلام الذل العربي 

للكاتب والصحفي الكبير رياض نجيب الريّس من كتابه {قبل أن تبهت الألوان}

كُتب هذا المقال في لندن بتاريخ 19/06/1982

في عصر الجبن العربي، لا أحد منّا عنترة بن شداد، لكن شيئاً من الكلام يجب أن يقال مع شيء من الصدق.

إذا كان خريف عام 1980 مؤشراً لسقوط الأحلام الفارسيّة فإن ما نخشاه هو أن يكون صيف 1982 بداية سقوط الأحلام العربيّة وبزوغ الأحلام الإسرائيليّة وفي عصر السلام الإسرائيلي المسلح.

أنا لا أعرف ما هي حسابات الأنظمة أو الحكام، لكنني أعرف ما هي مشاعر الشعوب والمحكومين. هذه المشاعر لا تلتقي أبداً مع تلك الحسابات.

يقول بطل قصة جان بول سارتر {الحائط}، أنه شعر بحريته التامة المطلقة، وللمرة الأولى في حياته، عندما كان ظهره إلى الحائط قبل أن تُطلق عليه النار.

الأمة العربيّة اليوم ظهرها كله إلى الحائط، بسقوطها نهائياً أمام إسرائيل في الحرب اللبنانيّة. لذلك يجب أن تشعر هذه الأمة المنكوبة بمنتهى حرّيتها، حيث لم يَعُد لديها شيء تخسره قبل أن يُطلق عليها أعداؤها النار.

لا أتذكر أي قائد عسكري قال، عندما تطلع إلى قواته : {لا أدري ما إذا كانت هذه القوات سنخيف أعدائي، لكنها والله تخيفني}.

هكذا هي حال الأمة العربيّة وهي تتطلع إلى إسرائيل وإيران معاً اليوم، من دون أن تكون قادرة على منع إيران من اجتياح حدود العراق، وهي التي سمحت لإسرائيل باجتياح حدود لبنان. إن أمة كهذه ليس بمقدورها أن تمنع لا انتصار إسرائيل ولا انتصار إيران.

أقول هذا بشيء من الرعب. وأقوله بشيء من الحذر. إنما أقول بشيء من التفاؤل الحزين على أمل أن لا يقع. لكني أتساءل : هل ممنوع على العرب ـ أي عرب كانوا ـ الانتصار في أي حرب، كبرت أم صغرت، وضد أي عدو كان ؟ يبدو ذلك.

أسأل ذلك وأنا أقف مذهولاً أمام كلام سمعته مراراً وقرأته تكراراً في الآونة الأخيرة تعليقاً على ما وصلت إليه الحرب العربيّة ـ الإسرائيليّة في لبنان والحرب العراقيّة ـ الإيرانيّة مفاده : ( محال أن يتم النصر للعرب في أية معركة سياسية أو عسكرية على أساس قومي أو عقائدي. لقد أنهزم العرب لأنهم خاضوا المعارك على أساس قومي وانتصرت إسرائيل وإيران لأنهما انطلقتا من أساس ديني. إن العربي لا يجد في أرضه غير السجون والمعتقلات والتعذيب وكبت الحريات). 

ـ أولاً : الرد البسيط أن تقول لأصحاب هذا القول إن الإسلام حملته سيوف عربيّة هي التي فتحت الأمصار، وأن الانهيار العربي لم يحدث إلا في عهد المسلمين من غير العرب أصحاب الحركات الشعوبيّة.

وأن تقول لهم أن النضال القومي العربي بدأ بالثورة العربيّة ضد الاستعباد العُثماني وسياسة التتريك باسم الإسلام. وتقول لهم أن جيلنا بكل هزائمه عاش أسعد لحظاته في ظل نمو المد العربي منذ الثورات الاستقلالية ضد الاستعمار والانتداب حتى التجارب الوحدويّة ـ مع كل فشلها ـ وأن كل الانتفاضات الوطنيّة العربيّة قد قامت بعامل التضامن القومي، لا الديني.

وإن تذكرهم بأن الثورة الفلسطينيّة مثلاً، هي ثورة عربيّة علمانيّة ضد التعصب الديني العنصري الصهيوني، وأن كل نجاحاتها قامت بسبب محتواها القومي. من يقف ويدعم ويسلح ويدافع ويحمي الثورة الفلسطينيّة ؟ مسلمو الفيليبين أم بنغلادش أم تركيا أم إيران يا ترى ؟ أم أن الذي وقف معها وأعطاها من ماله ودمه وحتى أرضه طوال ثلث قرن هم العرب ـ كل العرب ـ بعامل الدافع القومي العربي، لا بعامل الدافع الديني.

ومن وقف إلى جانب الثورة الجزائريّة ؟ مسلمو تنزانيا أم مسلمو الهند أم مسلمو ماليزيا ؟ إن الذي وقف معها هم العرب بكل دولهم وتشر ذمهم ومن محيطهم إلى خليجهم بعامل العروبة، لا بعامل الدين.

صحيح أن العربي لا يجد في أرضه غير السجون والمعتقلات والتعذيب وكبت الحريات والإعدامات. صحيح جداً. لكن هل سجون الخميني الإيرانيّة وضياء الحق الباكستانيّة وكنعان أفرين التركيّة هي أفضل من سجوننا العربيّة حتى نختارها بديلاً عنها ؟

هل الديموقراطية والحرية المنتشرتان في إندونيسيا إلى بنغلادش مروراً بأفغانستان حتى ألبانيا أفضل من الديموقراطية والحرية اللتين في عالمنا العربي حتى ننتصر لهما ؟

أم هل نذكّر من يتناسى أن تركيا، أكبر الدول الإسلاميّة، كانت أول دولة اعترفت بإسرائيل، وما زالت حتى اليوم تقيم أفضل العلاقات الدبلوماسيّة معها. كذلك كانت إيران الشاه.

ـ ثانياً : الرد الصعب هو أن ندرك أن ظلام الذل الذي يخيم على العرب اليوم أمام الشهية الإسرائيليّة المفتوحة بعد أن اجتاحت لبنان وسط الصمت العربي الغني في معانيه، المذهّب في أبعاده، الفضي في نتائجه، لا بد وأن يستمر طويلاً.

لقد هوى العرب الظلام في ظل تقهقرهم الذي لم يعرف له التاريخ مثيلاً. وأصبح الجبن العربي سمات العصر الذي تمارس فيه إسرائيل عدوانها وغطرستها وهي ممسكة بسيفها الطويل تحاول أن تؤدب فيه كل من يخرج عن طاعتها.

لم يعد مطلوباً وسط هذا الظلام الدامس انتصار عربي. لقد أصبح المطلوب موقف بطولة عربيّة واحداً، حتى لا يسجل علينا في الزمان العربي الرديء الذي نعيشه أننا قبلنا هذا الخنوع المرعب.

في هذه الأيام الحزينة ليس فينا من يجرؤ أن يدين أي طرف عربي يعتبر مسؤولاً عن الكارثة التي لحقت بنا. لكن يجب أن نجرؤ على المطالبة بوقفة عربية تعلن الحرب من دون أن يكون بينها وبين الآلة العسكرية الإسرائيليّة أي تكافؤ، وتسقط شريفة حتى تنقذ شرف هذه الأمة وتبرئ ساحتها، لنؤكد أن العروبة ليست وهماً وأن القوميّة العربيّة ليست هراء وأن اللبناني والفلسطيني لا يموتان وحدهما ونحن نتفرج. فإذا كان ممنوعاً علينا الشعور بالنصر أو بالكرامة أو بالعز فإنه على الأقل مسموح لنا أن نموت مع اللبناني والفلسطيني إنقاذاً لشرف هذه الأمة الملطخ منذ أكثر من ثلث قرن. ولنبرهن على الأقل أننا نملك رداً أو نملك نبضاً أو نملك دماً.

إن إسرائيل لم تنتصر بجيشها الذي لا يقهر ولا بآلتها العسكرية المنيعة ولا بتقنيتها المتقدمة ولا حتى بتعصبها الديني. لقد انتصرت بفعل عامل واحد لم يعرفه العرب في أجيالهم الثلاثة الأخيرة المتعاقبة، منذ جلاء القوات الأجنبيّة عن بلادهم وإعلان استقلالهم : الحرية.

الحرية التي هي ممارسة ديموقراطية حياتيّة يوميّة، المواطن العادي هو صاحب القرار فيها، يرفع الحاكم الذي يعنيه على النصر ويحفظ له خبزه مع الكرامة. ويسقط الحاكم الذي يقوده إلى الهزيمة ويسلبه خبزه وكرامته. هذا هو السحر الإسرائيلي الذي أستعصي فهمه على العرب. كل العرب. وإذا نحن عاجزون أمام هذا الشيء العظيم البسيط الذي لم نملكه بعد : الحرية والكرامة.

لتسقط كل المؤتمرات وكل البيانات وكل التصريحات وكل الوساطات وكل الشعارات وكل الخطط الخمسية والمشاريع الإنمائيّة والرخاء الاقتصادي والخدمات الإجتماعيّة في سبيل نسمة حرية واحدة وكسرة خبز صغيرة مع كرامة كبيرة ....

إن العالم كله يريد أن يحرم العرب من انتصار لهم. فوجد في التشرذم العربي موطئ قدم له. فأخذ يخطئ في الحساب. حساب التاريخ وحساب الجغرافيا وحساب المصالح الآنية وحساب المكاسب الوقتية وحساب الخلافات الشخصيّة.

إن الشعوب مهما شاخت أو ذلت، قادرة على أن تنفض الغبار عن أكبر الهزائم، ولكنها غير قادرة على الكذب على تاريخها الذي لا يرحم. كم نعشق نحن العرب عار التاريخ ! وكم لبسنا هذا العار طويلاً ! .

صحيح أن ليس هناك واحد فينا هو عنترة زمانه في عصر الشماتة العربيّة والخوف العربي والسقوط العربي والذل العربي والتشرذم العربي ... لكن يجب أن يكون فينا من هو قادر أن يستل سيف عنترة من غمده ليعيد إلى هذه الأمة المضرجة بالهزيمة، الملطخة بالكذب، شيئاً من الصدق وشيئاً من الكرامة وأشياء من الحرية.

يبقى أن نعلن نحن المملوئين قهراً وحرماناً، إذ لم يعد هناك مكان لانكسار الجباه، أننا ننتظر الرياح الآتية من بعيد لعلها تحمل في غبارها بعض نسائم ما حرمنا منه دهوراً، وإلا لن يبقى أمامنا إلا أن نكرر ما سبق أن طلبه الشاعر محمد الماغوط في قصيدته {كل العيون نحو الأفق} ـ أن نطلب من الله أن يبيد هذه الأمة !.