دمشقي في غرناطة
للكاتب والصحفي الكبير رياض نجيب الريّس من كتابه {قبل أن تبهت الألوان}
غرناطة في 03/05/1986
ما علاقة الصحافة بالعمران ؟
وما سر علاقة الصحافي بالعمار ؟
أرتسم هذان السؤالان على وجهي، عندما دعتني {جائزة الآغا خان للعمارة} لحضور ندوة عن {تعليم الهندسة المعماريّة في العالم الإسلامي} في غرناطة في أسبانيا.
وألح هذان السؤالان أكثر فأكثر، عندما اكتشفت أنني سأكون أحد أربعة صحافيين فقط دُعوا لحضور هذه الندوة، برفقة حوالي مائة من أهم وألمع المهندسين المعماريين في العالم، وفي وسط أروع أثر معماري إسلامي في الدنيا. أما الصحافيون الأربعة فكانوا: واحدة من أندونيسيا وواحد من باكستان وواحد من المغرب وأنا.
وشعرت بانقباض شديد عندما اكتشفت أنني لا أملك من المصطلحات الهندسيّة ولا من مفردات الكتابة المعماريّة شيئاً، وبالتالي لست قادراً على صياغة جملة واحدة تهم أحداً من مشاهير المهندسين المعماريين الذين كنت برفقتهم في ندوة غرناطة. وأردت أن أتسلح بزملائي الصحافيين الثلاثة الآخرين، على أمل أن يفوق جهلهم جهلي.
فسألت الزميلة الإندونيسية عن علاقتها بالعمارة الإسلاميّة، فكان جوابها: لا شيء، سوى أنها كتبت عام 1980 سلسلة مقالات عن الأحياء السكنيّة المكتظة في جاكرتا أسٍفرت عن مشروع لتحسين الظروف المعيشيّة لمئات الآلاف من أفقر سكان جاكرتا، مما ساعد على دمج القطاع الشعبي مع اقتصاديات المدينة وشجع المبادرة الفرديّة في تحسين الإسكان.
وسألت الزميل الباكستاني عن علاقته بالعمارة الإسلاميّة، فكان جوابه: لا شيء. فهو لا يعرف الدرج من المئذنة. إلا أنه أنتج برنامجاً تلفزيونيّاً قبل سنوات عن ترميم مقبرة الشاه ركن العلم في مدينة مولتان في باكستان، والتي يعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر، أدى إلى إحياء بعض الصناعات اليدويّة الكبيرة التي مضى عليها ستة قرون، وإلى تشجيع حركة بناء مشابهة في كل أنحاء باكستان.
وسألت الزميل المغربي إذا كان هو كاتباً متخصصاً بالعمارة الإسلاميّة فرد عليّ بثلاث لغات معاً، فهمت واحدة منها فقط، بأنه صحافي كتب مقالاً منذ عدة سنوات عن البيوت ذات الأقنية في مدينة أغادير في المغرب، وكيف أن تصميمها تجاوب مع المناخ وشروط العزلة.
وشعرت أن حجمي قد تضاءل أكثر فأكثر. فأنا لم أكتب شيئاً عن أي مشروع معماري أو إسكاني أو أثري في كل حياتي الصحافيّة. لكنني قلت لنفسي: ما دمت قد صرت في غرناطة وفي وسط الحمراء، فلأحاول أن أراهما: المدينة والقصر، بعيون عربيّة، لعلني بحدس الصحافي ووله العاشق للتاريخ، بأمجاده وعمرانه، وشغف الكاتب وفضوله لِسبر أغوار ما لا يعرفه، أستطيع أن أفهم شيئاً عن العمارة العربيّة ـ على الأقل ـ في الأندلس.
والأقدار لا يفنيها الزمن، فلكل زمان عند العرب دولة ورجال. والحمراء تاريخيّاً، هي القصر العربي الوحيد الذي بقي إلى اليوم من العصور الوسطى. ولكن بقاء قصر الحمراء لم يكن ليعني شيئاً للعرب وللعالم، ولولا أنه قمة جماليّة لا تضاهي. ولعل جمال العمارة الإسلاميّة ظل يشع في ظلمات الكون قروناً وراء قرون، حتى شكل {ثلاثيّة} هي آية جمال في أي عصر من العصور، مؤلفة من: قصر الحمراء في غرناطة، وحدائق شاليمار في لاهور، وقصر توبكابي في أسطمبول.
لكن قصر الحمراء كان شيئا آخر. فالعرب كانوا يبنون ليومهم وليس لغدهم، لأنهم كانوا يعرفون أن {كل من عليها فان} إلا وجه ربهم. لذلك كان الحمراء قصراً ناعماً. هشاً رقيقاً. والمعجزة أنه بقي معنا إلى اليوم. فقد بناه عرب بني الأحمر، كما كان يضرب العرب خيامهم في الصحراء، إنما بأعمدة رخامية وبحجارة وقرميد وأخشاب. وكانوا يعرفون أن هذه الخيمة الكبيرة ستطوى عند رحيلهم مع الزمن. ولكنها كانت أقوى من الزمن. فزالت الدول وزال الرجال وبقي قصر الحمراء.
ولأن قصر الحمراء كان مضرباً كبيراً لعرب قدموا من الصحراء، عطشين للماء والخضرة، فقد جعلوا إلى جانبه حدائق كلوحة من لوحات الجنّة فيها يسرح الماء في كل مكان، سواق ونوافير وأقنية. وأثبت عرب الأندلس أن ليس هناك تناقض بين فقر عرب البادية وبين الفن والجمال. كما أثبتوا أن ليس هناك تناقض بين الفن الراقي والجمالية الأخاذة وبين بناء القلاع والحصون لأسباب دفاعيّة.
بسبب هذه الرقة الجمالية، لم يستطع الملك عبد الله، ملك الأردن، عندما زار الحمراء عام 1949، إلا أن يقول وهو يقف في ساحة الأسود يتلمس أحد الأعمدة المطرزة بآيات من القرآن الكريم: {الآن عرفت لماذا ترك العرب إسبانيا}. وكان هذا تعليقاً من ملك بدوي جاء من الصحراء، فاعتبر أن هذه الجنّة التي بناها العرب في غرناطة وهذه النعومة الغنيّة هي أكثر مما يطاق احتماله !!
وإذا كان الأحمر هو لون ملوك غرناطة، الذين كانوا يكتبون رسائلهم على ورق أحمر، والتي عُرفت فيما بعد {بالرسائل الحمراء}، فإن الأبيض كان اللون الآخر. وإذا بالأحمر والأبيض، هما لونا الملك والجلالة. لكن ملوك الإسبان الذين جاءوا من بعد العرب، حفظوا قصر الحمراء، بلونيه الأحمر والأبيض، بإقامة حزام أخر من الحدائق والممرات حول القصر، فأضافوا بذلك لوناً آخر ـ الأخضر الزيتوني ـ إلى لوني الملك.
وبين زحام الألوان في قصر الحمراء، دفعني فضولي الصحافي إلى أن أسأل غرناطياً كان يرافقني، عن رأيه في الحمراء. فقال لي: {إذا سألت أي إسباني غيري عن الحمراء فسيقول لك إنه عربي، ولكنه في الوقت نفسه إسباني، قطعة قطعة. لقد ظل قصر الحمراء معنا أكثر مما ظل مع العرب. إنه مرتبط فينا. مرتبط بهذا البلد المعقد الذي إسمه إسبانيا. نحن رعيناه وسقيناه وحافظنا عليه خمسمائة سنة. لولا الإسبان لما كان هناك الحمراء. لقد وقعنا في حبائله وعشقناه}.
وأدركت أن قصر الحمراء يعيش في غرناطة اليوم لأنه في حماية أكبر القوى التي تشد البشر إلى بعضهم. لقد عاش الحمراء في حماية الحب.
من وقتها لم أشعر أن الصحافة دخيلة على العمران.
في غرناطة وضعت يدي على تاريخ الجرح العربي. عثرت على ضالتي. عرفت السر العربي الكبير الذي شغلني طوال السنوات العشر الأخيرة على الأقل. وجدتها، وجدتها. إذ لم يكن هذا السر الضالة إلا مجرد تاريخ. تبدأ به الأشياء وتحدّد به الأمور وتنتهي عنده الظروف. كالتقويم : قبل الهجرة وبعد الهجرة. قبل الميلاد وبعد الميلاد. السنة القمريّة والسنة الشمسيّة.
في غرناطة قبضت على تاريخ الذل العربي. عرفته. أحسست به. تلمسته. توقفت عنده وتطلعت فيه طويلاً. 16 كانون الثاني 1494 يا لتعاسة هذا التاريخ ! يوم سقوط غرناطة. آخر دولة عربيّة في الأندلس وآخر يوم عربي في إسبانيا. وأقنعت نفسي، وأنا أطل من {برج دمشق} في قصر الحمراء على رحاب سهول غرناطة وقمم جبال {سييرا نيفادا}، إن الذل العربي بدأ هنا قبل خمسمائة سنة. وإذا كان لكل أمر بداية وبالتالي نهاية. فإن مثلي مَن هو مؤمن بحتمية الدورة التاريخيّة في حياة الشعوب والأمم، لا بد وأن يقر أن ذلك التاريخ كان اليوم الحاسم في المأساة القوميّة التي نعيشها في نهاية القرن العشرين.
وقررت، أنا العربي الدمشقي القادم من أعماق التاريخ الأموي إلى بقايا أمجاد العرب في الأندلس، أن أقبض على شخص التاريخ بيدي. ولم يكن لي سوى هاجس واحد في غرناطة : أن أجده.
سألت عنه في كل مكان. بدأت بحثي عنه في قصره، في الحمراء. في ساحة الأسود، وفي ساحة الريحان. في قاعة السفراء وقاعة الملوك. في باب الشريعة وفي رواق البركة. سألت عنه نهاراً وسألت عنه ليلاً، إذ قيل لي إنه قد يكون بين المعماريين الذي بنوا هذا القصر العربي العظيم ـ كما تقول الأسطورة ـ في الليل وعلى ضوء المشاعل، فأعطى لهيبها المحمّر اللون الأحمر للقصر فأصبح الحمراء. لكن القصر كان بلون حجارته نهاراً وليلاً وبسكانه من ملوك بني الأحمر دائماً.
بحثت عنه في نقوش الجدران وفسيفساء القبب وقناطر الأروقة. {لا غالب إلا الله}. {لا غالب إلا الله}. شعار بني الأحمر المنقوش في كل زاوية ومكان. لعله يكون مختبئاً بين ثنايا هذا التطريز الحجري. قيل لي : قد يكون في غرفة نومه يتلصص على الحريم في الحمامات فيرمي بتفاحة للمرأة التي تعجبه فتأتيه إلى مخدعه. بل نصحني أحدهم بأنه قد يكون مختبئاً في {برج الحمراء} حيث استقبلت الملكة إيزابيلا، قاهرة العرب في إسبانيا، كريستوفر كولومبوس وأذنت له بالإبحار لاكتشاف أميركا. وتصورت لو أن ملكة عربيّة كانت هناك لتأن لبحار كإبن ماجد في ارتياد الفضاء.
قيل لي إنه يتمشى مع السياح في حدائق القصر التاريخيّة التي بناها أجداده على صورة جنّة، وأنه يقرأ أشعار إبن زَمْرَك الأندلسي وقد نزعها من جدران القصر. بل أن أحد السياح قال لي أنه شوهد يتناقش ويتشاجر مع جده يُوسُف الأول وجده محمد الخامس، بانيا قصر الحمراء، لأنه سلّمه إلى الإسبان من دون أن يذكر قول أمه، عندما علمت أنه سيسلم المدينة : {تذكر أن أجدادك ماتوا ملوكاً لغرناطة، وأن هذه المملكة ستموت معك}. ولم أجده.
وعدت للسؤال عنه في كل مكان. في كل بيت عربي الملامح. عند كل نافذة تشبه نوافذ حي من أحياء دمشق القديمة. في كل سوق شبيه بسوق المال أو سوق الخيل أو سوق ساروجة في الشام. في كل الدكاكين التي كأنها فروع من دكاكين سوق الحميديّة أو البزوريّة. قرعت كل أجراس الكنائس لعله متنصر كغيره من العرب الذين ظلوا بعد النصر الإسباني، فيسمعني. طرقت باب كل بيت في حي {الباياسين} كما يسميه أهالي غرناطة اليوم أو {البائسين} كما كان يسميه العرب قبل خمسة قرون. لا أحد استطاع أن يقول لي ما إذا كان موجوداً هناك، ولا أحد استطاع أن يقول لي ما إذا كانت تسمية الحي العربي بالبائسين هي من بأس أم من بؤس. ولم أعثر له على أثر.
استفسرت عنه راقصات الغجر في كهوف غرناطة القديمة. قالت لي الغجريات أنه غادر غرناطة قبل خمسمائة سنة ولم يعد. وقالت لي راقصات الفلامينكو بعيونهن العربيّة الجارحة، أنه شوهد لآخر مرة وهو يغادر غرناطة باكياً ملكه كالنساء، لأنه لم يعرف أن يحافظ عليه كالرجال. حدّثنني عنه بلغة العيون العربيّة ولغة الأقدام الإسبانيّة. قال لي غجريات الفلامينكو بأقوامهن الممشوق وشعرهن المرفوع بكبرياء عربيّة فوق الجباه، أن أمهاتهن كن يتحدثن عنه بأسىً بالغ ويشدن بكرمه وحبه للرقص والموسيقى، وأن عازفي الغيتار منذ أيامه إلى اليوم لم يعرفوا رجلاً بكرمه وحبه للوتر.
سألت عنه أشجار البرتقال والنارنج في صحن كل بيت دمشقي في غرناطة، وعند كل فسقية ماء، وقرب كل ياسمينه أو ريحانة تطل من فوق سوق {كرمة} أندلسيّة، أو {كارمن} إسبانيّة أو حديقة بأية لغة أخرى. وكان الجواب، وقد أعياني البحث، أنه إذا لم يشاهده أحد من زمان، فإن الكل كان يعرفه. إلى أن مل أهالي غرناطة سؤالي وقالوا : لماذا تبحث عنه وبهذا الإلحاح ؟
قلت : إنني أبحث عن {أبو عبد الله}، آخر ملوك بني الأحمر وآخر سكان قصر الحمراء وآخر العرب في الأندلس، حتى أخنقه بيدي.
قالوا : ولماذا تريد أن تخنقه ؟
قالت : أريد أن أخنقه لأن { أبو عبد الله} صاحب غرناطة هو صاحب هذا الزمان العربي الرديء. هو صاحب مأساة التيه العربي الذي نعيشه اليوم، هو عضو مؤسس ومشارك وفعّال وأصيل ورديف في حزب العزيمة العربيّة الدائمة.
قالوا : وماذا كنت ستقول له قبل أن تخنقه ؟
قالت : كنت سأسأله: كيف يكون طعم الهزيمة التافهة خارج أسوار الحمراء وخارج غرناطة بالمقارنة بطعم الموت الصامد بالدم الأحمر لآخر ملوك بني الأحمر. أيهما الأكثر حلاوة ؟
كنت سأسأله عن ملوك الطوائف عنده وكيف هزموه. وربما أحدثه عن زعماء الطوائف في عصرنا اليوم، فنقوم بدراسة مقارنة. كنت أريده أن يحدثني عن عصر الذل في أيامه فلعله يعزيني كعربي في ذل أيامي.
كنت سأسأله آلاف كيف وكيف وكيف .. لكنني كنت سأصرخ في وجهه :
ويحك يا آخر ملوك العرب في الأندلس، يا آخر الأمجاد، يا بداية الذل. عد إلينا يا أبا العباد. الكل غافر لك. حتى أنا.
في غرناطة توقفت في دكان صغير يبيع توافه الأشياء للسياح في حي {الباياسين} العربي، عند كومة مفاتيح قديمة صدئة مربوطة في سلسلة حديديّة ومرمية على رف من الرفوف إلى جانب أحذية للبيع. عددتها، فوجدتها سبعة عشر مفتاحاً من النوع الكبير الذي لم يعد يصلح لأقفال هذه الأيام. وإلى جانبها كانت هناك كومة أخرى من المفاتيح الأصغر حجماً والتي علاها أيضاً الصدأ والعفن في رزمة مربوطة بشريك حديدي رفيع. وكانت أيضاً من النوع الذي لا أقفال له اليوم. وعددتها فوجدتها عشرين مفتاحاً.
وسألت صاحب الدكان، الذي كان رجلاً مسناً، وإلى جانبه زوجته التي تشع نضارة وحيويّة، وإن كانت تزيده بعدد السنين، عن هذه المفاتيح.
قال لي : من أي بلد أنت ؟
قلت له : أنا عربي من دمشق
قال : من عرب النفط ؟
قلت : لا. من عرب الأنهار والوديان والأشجار
قال : والنفط مّن عربه ؟
قلت : عرب الصحراء والرمال والبوادي والكثبان
قال : إذن أنت عربي فقير
قلت : ربما
قال : إذن لن تشتري من عندي شيئاً
قلت : قد أشتري من عندك إذا أجبتني على سؤالي عن هذه المفاتيح
قال : إنها ليست للبيع
قلت : إنني أسألك عنها، ولا أريد أن أشتريها
عندما وصل الحديث عند هذا المنعطف، كان الوقت قد بلغ الظهر. وقد قاربت ساعة القيلولة وأخذ الزبائن يغادرون الدكان. تطلع صاحب الدكان العجوز بساعته وكأنه على وشك أن يضحي بأكثر ما يستطيعه أي إسباني، وهو {السييستا}. وتمتم ببضع كلمات بالإسبانيّة، سرعان ما تدحرجت كتلة اللحم الأبيض النضرة التي هي الزوج وأغلقت الباب وأسدلت الستائر عليه وقلبت يافطة صغيرة مكتوب عليها {مغلق} من الداخل إلى الخارج، وعادت بالسرعة نفسها إلى جانب زوجها وكأنها تنتظر نطقاً ساميّاً.
تطلع صاحب الدكان إليّ من فوق إلى تحت، وكأنه يائس من كوني زبوناً شارياً، وقال لي : أتريد الحقيقة التامة أم تريد الحقيقة المتداولة ؟ {وضحكت لهذا التمييز بين نوعين من الحقيقة، ولكنني كتمت ضحكتي حتى لا أوحي بعدم جديتي} إذاً كنت تريد الحقيقة التامة، فأنا لا أعرف. أما إذا كنت تريد الحقيقة المتداولة، فكل الذي أستطيع قوله لك، هو أنني عندما فتحت هذا الدكان قبل حوالي خمسين سنة ـ وكما ترى هي جزء من بيتي ، كانت هذه المفاتيح في البيت الذي ورثته عن جدي. وهذا البيت هو ملك لعائلتي منذ سنوات لا حصر لها. وأذكر أن أبي قال لي إنه وجد هذه المفاتيح في البيت عندما توفي جدي، وأن جدي قال له إنها كانت في البيت نفسه وأنه لا يعرف من أين أتت وما الغرض منها ولمن هي. هذه هي الحقيقة التامة.
وتابع محدثي العجوز الإسباني صاحب الدكان كلامه، ومن دون أن ينتظر مني تعليقاً.
قال : أما الحقيقة المتداولة فهي أن في أكثر من بيت في حي الباياسين، مجموعة مفاتيح مائلة. أما المفاتيح الكبيرة هي مفاتيح البيوت. والمفاتيح الصغيرة هي مفاتيح الدكاكين والكرمة {الحدائق أو " كارمن " بالإسبانيّة} والحمامات الخاصة. ومن المتداول في غرناطة إنها المفاتيح التي تركها العرب لبيوتهم ومحلاتهم عند من بقي في الحي من معارف وأصدقاء في ذلك الزمان، عندما غادروا غرناطة مع {أبو العباد} آخر ملوك بني الأحمر عند سقوطها، على أمل أن يعودوا فيفتحوا بيوتهم وأرزاقهم حين يستعيد العرب الأندلس.
سكت صاحب الدكان الإسباني، وكأنه يمتحن وقع روايته غليّ، وسألني وكأنه تذكر شيئاً نسيه :
ـ قلت إنك من عرب الأنهار. مَن هم هؤلاء العرب ؟ هل مروا من هنا ؟
أجبته : أنا من عرب دمشق. عرب أميّة. عرب الفتوحات. نحن الذين فتحنا الأندلس وأقمنا قرطبة وإشبيليا وغرناطة.
أتسعت عينا صاحب الدكان، وهتف الزوج الكهلة : نحن أقرباء. نحن أقرباء. أنظر إلى أنفي إنه أنف عربي. أنظر إلى جبهتي إنها جبهة عربيّة. أنظر إلى وجهي، تكاوينه عربيّة. نحن أقرباء. نحن أقرباء {ولو قالت أنظر إلى أردافي لقلت لها إنها أرداف عربيّة}. لكن الزوج قاطعها بحدة، وقال لي :
ـ هل تريد أن تشتري هذه المفاتيح ؟
أبيعها لك أيها الأموي القادم من دمشق. قد تحتاجها إذا أردت العودة بعد خمسمائة سنة إلى بيت من بيوتك في الباياسين.
وأرتج عليّ، فاعتذرت من الإسباني صاحب الدكان بأنني تركت صكوك التمليك لأقطاع بني أميّة في الأندلس في دمشق، وبالتالي فليس لي حق بهذه المفاتيح.
لكن صاحب الدكان العجوز أبتسم وهو يشيعني إلى الباب، وكأنه عرف السبب الحقيقي لتمنعي.
ـ لقد خفت إذا اشتريتها أن يعود العرب من أهالي الأندلس ذات يوم إلى غرناطة ليستردوا بيوتهم فلا يجدون المفاتيح حيث تركوها، فيضطرون للنوم في العراء خمسة قرون أخرى !