الوطن لا يزال مطبخاً

 

للكاتب و الصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {المرافئ القديمة}

في إفتاحية مجلة المستقبل بتاريخ 5/13/1978

في الأعداد الستين التي نشرت من {مجلة المستقبل} كان أهم مقال ـ إذا صحت التسمية ـ هو المقال الذي نشر قبل ثلاثة أعداد تحت عنوان : سقوط نظام الكالوريز !!

وخلاصة المقال، للذين لم يقرأوه، أو يحتفظوا به {آلاف القراء احتفظوا به} أنه يعطي القارئ، والقارئ السمين بوجه خاص طريقة جديدة للغذاء، يستطيع فيها أن يخفف وزنه، بدون أن يلجأ إلى عذاب الصيام.

وعندما قررنا نشر المقال، بعد ترجمته عن الإنكليزيّة، لم نكن نتصور عن أن يعتبره الآلاف من القراء، المقال الأساسي في العدد.

ولم نكن نتصور أن تنهال علينا التلفونات، والرسائل، المستفسرة والمستوضحة، والطالبة مقالاً تفسيرياً للمقال الأساسي.

طبعاً إن حب العربي للأكل قديم قديم، فما من كتاب عربي خلا من ذكر وليمة.

وما من تاريخ عربي، لم يقرن الوقائع {بطبخة}.

ولكنّا لم نكن نعرف حتى نشر المقال، أن هذا الحب، قد تحول مع التطور التكنولوجي للقرن العشرين، إلى الحب الأول، إن لم نقل الإهتمام الأول.

قال لنا البعض، عندما روينا لهم ما جرى إن السبب قد يعود إلى حالة الكبت السياسي {وغيره} التي يعيشها المواطن العربي، مما جعله ينفس عن هذا الكبت ... بالتحول إلى الأكل.

وقال البعض الآخر : بأن ما تبقى من كل أمجاد العرب، هو المطبخ، ولذلك كان تمسك الملايين به، في وجه الحضارة الصناعيّة الزائلة.

وقال غيرهم : إن الهموم الحياتيّة للمواطن العربي العادي تنحصر في البحث عن الطعام، ولذلك ـ ومع الزمن ـ تحول هذا البحث المستمر إلى نوع من الإدمان.

وقيل بأن المقال نال كل هذا الإستحسان الهائل، لأن عذاب العربي ـ قبل المقال ـ كان ينحصر في كيفيّة الجمع بين الوزن المعقول، ووجبة الأكل التي لن يرضى عنها بديلاً.

وهناك من تفلسف وقال : لماذا الإستغراب ؟ إن الأكل لدينا كان دائماً الإهتمام الأول في حياتنا، والدليل أنه عندما يساق أي موطن إلى السجن {خاصة لآرائه السياسية} فإن العائلة تركض للتوسط لدى المسؤولين حول كيفية تأمين الطعام له ... ولا مرة توسطت العائلة لإيصال كتاب له مثلاً، أو جريدة !! .

وقالوا : لقد كتبت أنت مرة أن الوطن ليس مطبخاً، وذلك بعد أن لاحظت أن أي عربي في غربته لا يتذكر وطنه إلا عبر ... الحنين إلى الأكل.

وبعضهم كتب يقول : هنيئاً لكم على مقالاتكم الجادة الرصينة وخاصة مقال {سقوط نظام  الكالوريز}، الآن فهمنا سر الشعار الذي رفعتموه قبل الصدور بأن المستقبل.. هي مجلة الإنسان العربي !!

ناهيك عن البرقيات {برقيات} التأييد التي تطالب بالإكثار من مثل هذه المقالات القيمة التي تمس حياة الإنسان الجوهريّة.

والبعض تبرّع بشرح معقول بقول : إن القارئ العربي بعد ما مر به من أهوال، أهوال السياسة، أصيب بحالة قرف، وهو لذلك قرر تلقائيّاً التوقف عن قراءة كل ما يمت إلى السياسة بصلة، وقرر الإتجاه إلى غيرها، فكان مقال الأكل وما هو أهم من {الأكل} لنسيان السياسة.

لست أدري لماذا تذكرت الآن هذه {الهلولة} التي أحدثها المقال قصة الضابط العري الذي خسر موقعاً هاماً في حرب 1967 لأنه قبل هجوم الإسرائيليين على موقعه بساعة واحدة كان قد إلتهم {لاحظ كلمة إلتهم} على الغداء نصف خروف، فلما فاجأه الهجوم لم يستطع أن يستيقظ من النوم {إذا أردت أن تعرف إسم الضابط راجع ما هو الموقع الهام جداً الذي سقط بعد الغداء مباشرة}.

ولست أدري لم تذكرت الوطن، الوطن الصغير، والوطن الكبير، وتذكرت أن هذا الوطن الكبير والصغير لن يصبح وطناً، إلا إذا قررنا جميعاً بأنه لم يعد مطبخاً ....

وإلى ذلك الحين ...

{العوض بسلامتكم} !.