دمشقي في مراكش
للكاتب والصحفي الكبير رياض نجيب الريّس من كتابه {قبل أن تبهت الألوان}
كُتب هذا المقال في مراكش بتاريخ 06/12/1986
ماذا يفعل صحافي عربي مثلي، شوهته الكتابة السياسية سنوات عجافاً طويلة، وأثقلته متابعة الأخبار، واستعصي عليه فعم أحداث أمته، وأضناه تحليلها، وتاه في تناقض مواقف سياسييها، أمام مشهد ثقافي حضاري وفني لا يتكرر إلا مرة كل عدة سنوات ؟
قد يتذكر أنه شاعر سابق، وأنه هاو للفنون الجميلة وجامع متواضع للوحات عدد من رسامي بلاده، وأنه له كتاباً في النقدَّ. ويتذكر أكثر، وإن كان قارئاً مقلاً هذه الأيام للأدب والشعر والقصة، أنه يريد أن يستعيد هويته الثقافية بانتصار الحيوان الثقافي على الحيوان السياسي في داخله. ويدرك بأن هذا الصراع لن يكون بالأمر السهل لولا أن المدخل إلى الحلبة واحد / هواية التاريخ.
وأستحوذ عليه التاريخ، وهو في مراكش حيث تم في 24 تشرين الثاني 1986، توزيع جوائز مؤسسة الآغاخان للعمارة، وهي أكبر جائزة معمارية في العالم {نصف مليون دولار} على ستة مشروعات بارزة ومميزة. وألحت عليه مجموعة من الأسئلة حول البُنى المشيّدة في دنيا الإسلام الواسعة وهو يتطلع حوله في مراكش، تلك الواحة على سفوح جبال الأطلسي وعلى حدود الصحراء، بحثاً عن الثقافة المعماريّة العربيّة وقد شوهتها سياسة التحديث، وأن امتلأ قلبه فخراً للأعمال التي ورثها العرب والمسلمون عن ماضيهم.
ولعل السبب الأساسي لإلحاح الأسئلة لم يكن جائزة العمارة نفسها، بقدر ما كان مراكش مدينة، التي لم تكن في بدء التاريخ سوى مكان غير مضياف لتقاطع طرق القوافل الذاهبة إلى الجنوب. لكن رواة التاريخ يقولون ـ وهم عادة أصدق من محترفي التاريخ وعلمائه ـ أن في يوم من الأيام جاءت قبيلة من الجانب الآخر من جبال الأطلس تحمل التمور التي حملتها. واستمرت تلك القبيلة في الحصار إلى أن نبتت نوى التمر التي سقطت على الأرض وأصبحت غابات النخيل التي نراها اليوم.
في حوالي ذلك الزمان جاء رجل اسمه أبو بكر، كان زعيماً لقبيلة المرابطين وأحد شيوخ الصحراء {المغربيّة} وأقام في ذلك المكان. لكن إقامته لم تطل هناك، حيث أضطر إلى العودة إلى الصحراء لقمع إحدى الفتن، تاركاً ابن عمه يُوسُف بن تاشفين مكانه. وفي عام 1062 قرر يُوسُف بن تاشفين أن يبني مدينة في المكان الذي تركه فيه عمه. وتقول الأسطورة أن يُوسُفاً قام ببناء المدينة بيديه وأنه هو الذي صمم نظام القطارة، وهي الأقنية الشهيرة تحت الأرض التي تربط بين الآبار وبيوت وحدائق المدينة، وأنه هو الذي أبدع نظام الري الذي كان سبباً في شهرة بساتين المدينة بنخيلها وحمضياتها عبر التاريخ. وهكذا ولدت مراكش ـ المدينة.
وكان يُوسُف بن تاشفين رجلاً فاضلاً ومتقشفاً. لذلك لم يتردد في أن يلبي نداء أمراء الأندلس عندما استعانوا به بعد سقوط طيطلة. فحزم أمره وقاد جماعته وعبر بهم مضيق جبل طارق إلى إسبانيا، ليدرأ هزيمة طيطلة العربيّة. وحقق يُوسُف الانتصار تلو الانتصار ضد الأسبان، وحوّل مراكش، بعد أقل من 40 سنة من إنشائها، إلى عاصمة لإمبراطورية متنامية الأطراف، تمتد من كاتالونيا الإسبانيّة إلى المحيط الأطلسي، ومن الجزائر إلى حدود جبال السودان، عُرفت بدولة المرابطين.
ومات يُوسُف، ولم يعد عمه أبو بكر من الصحراء. فورثه أبنه علي بن تاشفين الذي |أنصرف إلى إتمام بناء مدينة مر. فكان أول من أقام الأسوار الواقية حول المدينة، وكل متاريس تلك الحقبة. لكن دولة المرابطين لم تعمّر طويلاً. ففي عام 1147، جاء الموحدون، وكانوا جماعة إصلاحيّة دينيّة، واحتلوا مراكش. وأمر زعيم الموحدين الروحي، إبن تومرت، بتدمير المدينة عن بكرة أبيها ومحو آثار أسلافهم.
لكن عبد المؤمن أول أمير للموحدين، أمر بإعادة بناء مراكش على الطراز الأموي، كما عُرف بالأندلس، بحدائقه وبركه وصحونه، وكما يبدو واضحاً في المنارة اليوم. ولما جاء إبنه يُوسُف إلى الحكم، بنى المدرسة، وهي أهم كلية علميّة من نوعها أقيمت في دولة الموحدين. وفي عهد يعقوب المنصور أهم أمراء الموحدين، والذي لُقب بالمنصور لانتصاراته العسكرية في الأندلس، وسّع من بناء مراكش وحسّن من أسواقها وحدائقها وأسوارها، وأتم بناء أهم منجزاته وهو جامع الكُتبية. وفي عصر دولة الموحدين وعهد يعقوب المنصور أصبحت مراكش قبلة للفكر والثقافة والعلم. وامتلأ بلاط يعقوب بالشعراء والعلماء والفلاسفة الذين كان من أشهرهم الفيلسوف العربي الأندلسي إبن رشد.
وكما يحدث عادة في التاريخ، ما أن تصل الدولة إلى قمة أمجادها، حتى تبدأ بالانحدار. ففي عام 1262، انهارت دولة الموحدين تحت وطأة الأدراسة الذين كانوا يحكمون فاس لأكثر من نصف قرن. لكن الأدارسة بقوا في فاس. ولم تعد مراكش إلى أوجها إلا عام 1520، عندما وصلها السعديون، وهم من أشراف الجزيرة العربيّة، وبقيام الدولة السعدية عادت أمجاد العرب إلى مراكش ومعها حياة ألف ليلة وليلة. وازدهرت مراكش في ذلك العصر أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً في عهد أحمد المنصور الذهبي بطل معركة الملوك الثلاثة بين المغاربة والبرتغاليين وفاتح الصحراء، الذي بنى قصر الباري، ليبقى على مر القرون علامة فارقة في تراثه.
وحرر التاريخ عصراً للإنحطاط في مراكش، ولم يبقى سوى قبور ودواسر لأمراء، وأطلال أكل الدهر عليها وشرب، كشاهد على زمانهم الذي ولى وانقضى. إلى أن جاءت الأسرة العلوية من مكناس بزعامة مولاي إسماعيل لتشيّد دولتها. وانتظرت مراكش حتى عام 1873 لتستعيد عظمتها في عهد مولاي حسن {الحسن الأول} الذي أعلن نفسه ملكاً على بلاد المغرب الأقصى، والتي كانت تُعرف في حينه باسم مراكش.
أمام تاريخ مراكش المقتضب هذا، وقفت أحدّق في أسواقها وعماراتها وأنا أتساءل عن تلك الصلة التي تربط مدن الحضارة الإسلاميّة بتعاليم الماضي العظيمة وبالمنجزات الثقافيّة النموذجيّة التي حققها. وإذا بالإسلام، هذا المذهب الإنساني المتفتح الذي يتخذ من التسامح والتحرير شعاراً له، كان ذلك الإلهام الروحي الذي هو سمة من سمات تراثنا المشترك. وتأملت طويلاً هذا التراث، الذي عرف في كل مكان، وما يزال يعرف، فترات ركود تاريخيّة طويلة، كيف يقاوم محاولات شتى لتدميره أو إلغائه أو نسيانه.
أن مراكش تعيدك إلى مجرى التاريخ، الذي واصل السير منذ القرن السابع عشر على الأقل بدون مشاركتنا كعرب أو كمسلمين فيه، فتشعر كم أوهنت الضربات التي جاءت من الخارج هذا التراث الجميل العريق، وكم شوهته ومزقت أوصاله. فتكتشف كم أبتعد الإسلام اليوم عن فتحاته الإنسانيّة ونأى عن ثقافته، فبعدت الشقة بينه وبين العالم العاصر. فبدل الانغلاق في مفهوم جامد، كما هو حال ثقافتنا اليوم، كان علينا ترك باب التفكير والتأمل مفتوحاً في ما يمثله التراث الإسلامي ومن صمنه طابع العمارة الإسلاميّة وما تمثله الحداثة وهنا كان من الممكن لمصيرنا أن يصبح على أفضل مما هو عليه، فليس كل ما في التراث قديماً أو عفى عليه الزمن، وليس ـ بالطبع ـ كل ما في الحداثة بشيراً بالتقدم أو بمزيد من الكفاءة.
ولما كانت مراكش تضج بحديث العمارة الإسلاميّة فقد طُرح السؤال الصعب، الذي حاول أكثر من مائة مهندس معمار من مختلف المشارب الفنيّة والخلفيات الثقافيّة والأقطار الشرقيّة والغربيّة أن يجيب عليه، وكل وبطريقته : كيف نضفي المكانة التعبيريّة على منجزات التراث المعماري الإسلامي العظيمة مع إحترام أساليبها التعبيريّة الإقليميّة والدور الحقيقي الذي لعبه الإسلام في إلهام تصميمها، في الوقت نفسه الذي تسعى فيه إلى الاستفادة من أساليب التصميم الحديثة ومن تقنيات التنفيذ التي تتيح تلبية احتياجات مجتمعاتنا الجديدة وتنوعها ؟
بل كيف تتجنب خطرين ما يزالان يتهددان المعمار : أولهما تحديث يستورد من الخارج ويقحم دون تمييز على مجتمعات إسلاميّة، والثاني، هو نقيض الأول، نزعه تقليديّة تتمثل في إقحام أشكال ومواد وعناصر مستقاة من آثار تقليديّة على مبانٍ عامة أو خاصة بقصد إضفاء طراز أو طابع عام يوصف بأنه إسلامي ؟
لم تستطع نخبة من معماري العالم التي اجتمعت في مراكش أن تجيب على هذا السؤال الصعب. لأن الإجابة عليه لا تكمن في مشروع واحد أو في محاولة ما أو حتى عدة محاولات. إن الإجابة عليه هي جزء من مسار التاريخ السياسي والحضاري للشعوب،وهو مسار أجيال. والإجابة عليه أيضاً هي رهن بأن يستوعب المعمار على مر الزمان الثراء الثقافي والطفرة الإبداعيّة، بقدر ما عليه أن يستوعب أحلام المجتمع ذاتها لكي يغدو هو ذاته قوة دمج للزمان والمكان الذي يتم فيه الاحتكاك المتبادل بين البشر، إن الفكر الإسلامي المعاصر اليوم والثقافة الإسلاميّة بمفهومها العريض، تحتاج إلى المشاركة بإيجابية في مغامرة التحدث الجارية، كما كانت تفعل دائماً خلال عصور الازدهار، عندما كانت تملك طاقة روحية متجددة لا تساوم في الجماليات ولا تخاف من عبقرية الإبداع ولا من طموحات العباقرة.
إن جائزة العمارة قد حملت هذا التحدي إلى العالم الثالث. إلا أنها حملت الأهم من ذلك وهو طلبها الوقوف في وجه ظاهرة الاجتثاث الثقافي. وذلك يتطلب الوصول إلى حالة،تكررت كثيراً في تاريخ الإسلام الثقافي، مؤداها أن أي ثقافة تبلغ مستوى كفاءتها وإشعاعها وإخصابها الأمثل وسط أولئك وسط أولئك الذين يعيشونها وينتجونها عندما تلتقي جميع الأنشطة التي تؤلفها وتتضافر في سبيل تحقيقها.
أن هذا التحدي المطروح في العمارة يتطلب فتح باب الاجتهاد على مصراعيه. الاجتهاد في التحليل والدرس والفهم والتفسير بهدف تزويد الفكر الإسلامي المعاصر بكافة الوسائل التي تتيح له الوقوف بطريقة موضوعيّة على ماضيه، والمشاركة على نحو إيجابي في مغامرة التحديث الجارية. لكن هذه المغامرة غير ممكنة ما لم تتجاوز الأوضاع القائمة في العالم الثالث اليوم {وفي المجتمعات الإسلاميّة بالذات}، فنثري، في جو مطلق من الحرية، وعلى غرار ما حفل الإسلام به في الماضي، البحوث والمنجزات التي يجري تحقيقها في أعظم البلاد تقدماً. عندئذ قل نلحق بركب الزمن وبحضارة العصر، أو أن نبقى محكومين بأبدية التخلف. والخيار يمكن فقط في حرية الاجتهاد.
في مراكش شعرت بأنني كنت قريباً من هذه الحرية. فما أحلى الرجوع إلى متاهات التاريخ، وإن أنكره أصحابه ثلاثاً كل يوم وقبل صياح الديك !.