الوطن ليس ... مطبخاً !
للكاتب و الصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {المرافئ القديمة}
1977/8/13في إفتتاحية مجلة المستقبل بتاريخ
لماذا، كلما تحدثنا أو تكلمنا عنّ الوطن ، في الغربة، نتذكر ... الأكل.
ظاهرة تسترعي الإنتباه والتعجب.. والتساؤل ؟
فإذا كان الوطن ليس دفتراً ــ على حسب رأي الزميل سمير عطا الله ــ فالوطن حتماً ليس ... مطبخاً، برأي الزميل الآخر شكري نصر الله.
ألم يبق من لبنان، بعد ما حدث ــ ولا داعي لذكر التفاصيل ــ إلا نقاء وصفاء ومتعة ونكهة وجمال مطبخه {لاحظ الجنوح نحو التغزل ... بالأكل}.
هل يريد اللبناني أن ينسى كل شيء، لأن كل شيء قد أصبح طبيخاً ... إلا الأكل.
وإلا لماذا إستبدال الشوق إلى حضارة لبنان، بالشوق إلى {صحن فول} عند العجمي.
ولماذا الحديث عن {القصبة السودا} تثير الحنين، أكثر من الحديث عن محاضرات الندوة اللبنانيّة !!
ولماذا البردوني لا يُذكر ــ هنا في الغربة ــ أحداً بشوقي وعبد الوهاب، و{يا جارة الوادي طربت ...} وإنما يذكرهم بروعة هدير الماء، وطبعاً مع صحن {كبة نية} !
ولماذا توقف اللبناني في العالم عن السؤال عن أحدث كتاب صدر في عاصمة النشر سابقاً {بيروت}، وهو دائم السؤال عن أحدث مطعم أفتتح في بيروت.
معذور ؟ يجوز ... ففي نظر الكثيرين سقط كل شيء في لبنان إلا ... الأكل.
من يستطيع اليوم أن يكتب عن لبنان : وطن المحبة ؟
ومن يستطيع ــ حتى أن يتذكر ــ لبنان وطن الإشعاع، وطن التعايش، وطن التسامح ... وإلى آخر القصيدة ؟
لماذا توقفت الإذاعة اللبنانيّة عن إذاعة {لبنان يا قطعة سما} أو{لبنان يا أخضر حلو} ؟، لأن قطعة السماء الخضراء الحلوة، تحولت إلى جزء من الجحيم.
تآمروا علينا ... صحيح، لكن الأهم أننا ــ كلنا وبدون إستثناء ــ تآمرنا على الوطن.
دمروه ــ أي الوطن ــ صحيح، ولكننا كنا، وطلنا، أدوات هذا التدمير.
قزموه ... برضانا، أفقدوه معانيه من حرية وأزدهار ... نحن الذين أفسحنا لهم المجال بذلك.
وبعد : كلمة لا بدّ منها عن هذه الصفحة، عنوان هذه الصفحة أساء إليها، أساء إليها، {نصاً وروحاً}، كما يقال.
فأصبح الذي يكلف، أو يتبرع بكتابتها، يدور ضمن حلقة مفرغة وهي التحسر أو التفجع أو البكاء ... عن الوطن.
وكأن {دفتر الوطن} لا يمكن أن يحتوي إلا على الحسرة والشجن والأسى والبكاء والنواح.
صحيح أن دفتر لبنان كان مليئاً حتى آخره بكل هذا في العامين الماضيين، ولكن هل يعني هذا ألا نكتب عن الوطن وإلا ضمن هذا الإطار ؟.
ولا مرة حاول أحدنا أن {يتذكر} الوطن، أو يفتح {دفتره} إلا يزيد إنعكاس بكاء على بكاء، وحزناً على حزن، ونواحاً على نواح، وإذا خرقنا القاعدة تذكرنا من الوطن ما اشتقنا إليه .. لما فيه من ... أكل !!
لم يتذكر أحدنا .. حبيبة في وطنه، ليكتب لها رسالة ... ولم يتذكر أحدنا طرفة من الوطن تبعث إبتسامة عند قارىء ملّ البكاء ...
لم نكتب ولا مرة عن فنان من الوطن عرفناه، أو كاتب كبير حفر في قلبنا خندقاً عندما قرأناه، ولا مدرسة رعت شبابنا، أو جامعة تعلمنا فيها خارج الكتب ... حب الوطن.
{حصرنا} الوطن في الحديث عن الذين أضاعوا الوطن، كابوس الذين حرقوا الوطن يلاحقنا إلى باريس، فإذا بنا نكاد لا نكتب إلا عنهم.
هل كتب أي منا قصة عن الأيام التي كنا فيها جزءاً من الوطن، قبل أن يصبح الجزء الطائر منه ... في العالم.
أين ذكريات الصحافة في الوطن، وعشرة منا ــ على الأقل ــ عاشوا تفاصيلها منذ أكثر من عشرين عاماً ؟
· موال من الوطن.
· سهرة في بعلبك.
· مسرحية لم تُكتب.
· قصيدة لم تؤلف.
· امرأة في عينيها، كل أوطان الدنيا.
· العرب ... والوطن.
· .... الوطن والعرب.
· البردوني ... والعرب.
· زحلة ... و{يا جارة الوادي}.
· سعيد عقل {عندما كان شاعراً}.
· أرق ما قاله أمين نخلة.
· هل تذكرون صلاح لبكي، والياس أبو شبكة؟
· فيروز {قبل أن تصبح مطربة المهرجانات}.
· وفيروز عندما كانت تختصر الوطن بقفلة أغنية.
· وديع الصافي قبل أن يحمل الوطن في صوته ... ويسافر.
· حنا يزبك ... نعم حنا يزبك، وعندما كان {قبضاياً} ... قبضاياً لا قاطع طريق.
· تستغربون، رندة {وعقصتني النحلة}.
· حبيب أبو شهلا ... ووجه لبنان المشرق، الأنيق.
· ولا تنسوا، وهل يستطيع أحد أن ينسى رياض الصلح ؟.
· ورفيقه الشيخ بشارة... والإستقلال.
· والمير مجيد، أليس له في دفتر الوطن صفحة.
نكتب هذه الأسماء، والمواضيع، كما ترد في الخاطرة، لا كما وردت في التاريخ أو الأهمية.
نكتبها لنشرح ماذا يمكن أن يعني {دفتر الوطن}، وماذا يمكن أن نكتب فيه و ...
إلى الأسبوع القادم.