المال أم الرجال ؟
للكاتب والصحفي الكبير رياض نجيب الريّس من كتابه {قبل أن تبهت الألوان}
كُتب هذا المقال في لندن بتاريخ 15/03/1980
في الأوساط الخليجيّة كلام كثير عن المؤتمر الخامس لوزراء إعلام دول الخليج الذي أنعقد في الدوحة في شباط 1980. وأكثر هذا الكلام منصبّ على ورقة العمل التي تقدمت بها دولة قطر حول خطة التحرك الإعلامي في الغرب، والتي سُميت {إعلان الدوحة}، والتي يبدو أنها كانت الورقة الرئيسيّة التي طرحت للنقاش، إلى جانب العديد من الأمور التقنيّة والتنظيميّة الروتينيّة التي يحفل بها كل مؤتمر من هذا النوع، والذي ينتهي عادة بتصريحات تعلن عن أن الاتفاق كان كاملاً من وجهات النظر، وأن المؤتمر قد حقق أهدافه !
هذه المرة لم يكن الاتفاق كاملاً حول ورقة العمل القطرية، ولم يحقق المؤتمر أهدافه حول التحرك العربي الإعلامي في الغرب.
أما وقد نشرت هذه الورقة، فسأسمح لنفسي، من دون أي اعتذار، أن أتلقف كلَّ ما جاء في هذا المشروع. وسأسمح لنفسي أيضاً، ومن دون أي إنقاص لجهد أحد، أن أناقش هذه الورقة التي تعنيني كصحافي درس وعاش وعمل في أوروبا سنوات طويلة.
ولما كانت هذه الورقة تقول : انه {ليس مفيداً أو مطلوباً الآن طرح تصور محدد كامل (لخطة التحرك الإعلامي في الغرب) ونحن في مرحلة مبكرة من بحث الموضوع، ولكن قد يعين في بلورة الفكرة نعرض بعض الأفكار حولها، وهي أفكار بطبيعتها قابلة للمناقشة والتعديل}، فقد سمحت لنفسي، أيضاً وأيضاً، أن أتجاوز كل الحساسيات الخليجيّة والعربيّة التي قد تنجم عن مجموعة ملاحظات أشعر أن من حقي طرحها.
سأبدأ القول أن الفكرة التي طرحتها ورقة العمل القطرية وهي {قيام مؤسسة عربيّة متخصصة تستطيع مخاطبة العقل الغربي}، هي من أهم وأجرأ ما طرح من أفكار إعلامية على مؤتمر لوزراء الإعلام العرب. بل أضيف أن قيام هكذا مؤسسة أصبح واجباً قومياً عربياً متأخراً. لكن من المؤسف أن مؤتمر الدوحة الأخير، الذي دعا مجموعة من السفراء العرب في العواصم الغربيّة، وهي فكرة جيدة تستحق التكرار، لم يدع صحفياً عربياً واحداً ذات صلات أو خبرة أو تجربة بالإعلام الغربي، على الأقل (كخبير) ما دامت عقدة الخبراء ـ من أي نوع ـ ما زالت تتحكم في الإعلام العربي، ليدلي بدلوه بين دلاء السفراء العرب الذين حضروا مؤتمر الدوحة، وليقول لهم على الأقل أن أهل مكة أدرى بشعابها وأن أبناء المهنة المحترفين يعرفون أزقتها أكثر مما يعرفون هم شوارعها العريضة. ومع احترامي الشديد لهؤلاء السفراء، إلا أنهم دبلوماسيون لا إعلاميون، وأن فهم بعضهم الإعلامي، فهمّ ملون بالمصلحة السياسية المباشرة للدول التي يمثلونها.
تقول ورقة العمل القطرية : إن الدول والشعوب العربيّة والإسلاميّة {تتعرض عبر وسائل الإعلام المختلفة في الغرب لحملة تجريح وتحريض لم يسبق لها مثيل. وتحظى دول النفط العربيّة ـ بشكل خاص ـ بالنصيب الأوفر من هذه الحملة، إذ تحاول وسائل الإعلام الغربيّة أن تحملها مسؤولية التضخم والبطالة واضطراب الأوضاع الاقتصادية التي تعاني منها الدول الصناعيّة}. ثم نضيف هذه الورقة لائحة طويلة مكررة ومعروفة ومتداولة لأسباب الحملة بداية بالدوائر الصهيونيّة {ذات النفوذ في المجالات السياسية والإعلاميّة في الغرب}، ونهاية {بالأحقاد التاريخيّة الصليبيّة}. وتتطرق هذه الورقة إلى الدخول في علم البديهيات والقول {أن هناك مصلحة إستراتيجيّة قصوى للدول والشعوب العربيّة للتصدي لهذه الحملات وكشف ما تنطوي عليه من زيف وتضليل متعمدين، وفي الوقت نفسه عرض الصورة الإيجابيّة البديلة عن نهضة الشعوب العربيّة وتطورها ... وخاصة أنه يتوفر للعرب الآن العنصران اللازمان للرد : المال والرجال}.
ثم تصل ورقة العمل هذه إلى الاكتشاف أن الإعلام العربي ـ من الجامعة العربيّة ومكاتبها إلى مؤسسات الإعلام العربيّة من صحافة وإذاعة وتلفزيون وعلاقات عامة ـ قد فشل خلال ثلاثين سنة من التصدي للحملات المضادة. ثم تقفز إلى اليقين الكامل بقولها : إنه {لم يبق شك إذن في الحاجة لقيام مؤسسة عربيّة مختصّصة تستفيد من الكفاءات العربيّة القادرة على مخاطبة العقل الغربي من خلال جميع وسائل الإعلام المتاحة وفق خطة شاملة يضعها هؤلاء الخبراء وتمولها الدول القادرة على ذلك وهي دول النفط العربيّة}.
لكن من المؤسف أن ورقة العمل هذه لم تتوقف لتسأل أو تتساءل عن أسباب فشل مؤسسات الجامعة العربيّة الإعلاميّة، ولا فشل مؤسسات الإعلام العربيّة الخاصة.
السبب ببساطة أن الأولى كانت تفتقر إلى الرجال {وأعني هنا تحديداً الصحافيين المهنيين المحترفين، لا الموظفين الإعلاميين} وان الثانية كانت تفتقر إلى المال. وأن معادلة خلط الرجل الصحيح بالمال السليم معادلة قصرّ الفهم العربي عن استيعابها. وإذا كان الخلاص ـ كل الخلاص ـ في قيام هذه {المؤسسة العربيّة} التي تملك المال والرجال، فيجب منذ البداية، خاصة ونحن أمام طرح جدي لفكرة خلاقة، التحذير من أن لا تتحول هذه المؤسسة ـ في حال قيامها ـ إلى (تكية) جديدة لإعلامي المقاهي وخاصة موظفي الجامعة العربيّة ووزارات إعلام الدول العربيّة. ولا مانع من حل مشكلة توظيف حملة الشهادات في العالم العربي ـبما في ذلك {الخبراء الإعلاميين} ـ عن طرق هكذا مشروع، شرط أن لا يحسب على الإعلام العربي في الغرب، ولا على التحرك الإعلامي العربي في الغرب بغية تحسين الصورة العربيّة وكسب مزيد من الأصدقاء للعرب. أن المال ـ على أهميته ـ لا يستطيع أن يشتري للعرب في الغرب صورة مضيئة واحدة إذا كان من يستخدمه لا يعرف أصول وقواعد وتقاليد المهنة الإعلاميّة كما تمارس في الدول الغربيّة، أن طرق الجامعة العربيّة ـ وهذا ما أشارت إليه بصدق الورقة القطرية ـ من أيام عزّام باشا وحسونة باشا ومحمود رياض معبّد بالجثث الإعلاميّة الفاشلة، حتى أيام جامعة الشاذلي القليبي الجديدة التي كنا نأمل أن تكون أكثر حظاً وفهماً إعلامياً. ومن هنا كان خوفي ـ وما زال ـ أن تتحول هذه المؤسسة إلى قناة جديدة لهدر مزيد من المال وضياع جديد للرجال.
لعل أهم ما لفت نظري في هذه الورقة، أنها تتحدث دائما|ً وبإسهاب عن {خبراء} ما، خبراء قانونيون لوضع إطارها القانوني. خبراء إداريون لتشكيل نظامها الداخلي. خبراء ماليون لتحديد طريقة تمويلها. من دون أن تشير هذه الورقة إلى {خبير إعلامي} واحد ـ تحديداً : صحافي، سينمائي، تليفزيوني ـ ومن دون أن تشير أيضاً إلى حاجة هذه المؤسسة إلى مضمون إعلامي أولاً من قبل أن تحتاج إلى قانون إداري يحدد من يقبض ومن يصرف ومن يوظّف. أن هذا الأمر ـ أمر الإعلام ـ آخر من يعرفه من خبراء قانونيين وخبراء إداريين وخبراء ماليين بمختلف أنواعهم، الذين سيحاولون، لو وضعوا أيديهم على هكذا مؤسسة، أن يدخلوها في مزالق الروتين الذي أكل وزارات الإعلام في العالم العربي وقضى على فعاليتها، بعد أن كان قد قضى من قبل على كل المؤسسات الإعلامية التابعة للدولة، أياً كان نظامها السياسي. إن مزالق الروتين هي خشبة الخلاص الوحيدة لأي خبير أو موظف قانوني ـ إداري ناجح يريد أن يرفع عن نفسه تهمة المسؤولية. والعمل الإعلامي الفعّال والمدري هو عمل من يريد مجازفاً تحمّل المسؤولية.
وأريد هنا أن ألفت النظر إلى بعض الأمور التي طرحتها هذه الورقة ومنها النشاطات التي تطمح هذه المؤسسة أن تقوم بها، والتي تشمل إصدار الكتب باللغات الأجنبيّة وإنتاج الأفلام السينمائيّة والتلفزيونيّة وإرسال المحاضرين العرب إلى دول الغرب والصحافيين الأجانب إلى الدول العربيّة والعمل على التغلغل في الصحف الكبرى في الغرب وخلق لوبي عربي على غرار اللوبي الصهيوني في أميركا وأوروبا.
من أهم هذه الأمور إصدار الكتب باللغات الأجنبيّة التي تُعرِّف بالوطن العربي وإنجازاته. المطلوب في هذا المجال عدم تكرار ما تصدره وزارات الإعلام الخليجيّة من كتب ونشرات تلقى في المستودعات أو في سلال المهملات، لا أحد يقرأها، ولا أحد يعرف كيف توزع. أليس الأفضل ـ كما يفعل الإعلام الذكي المتحضّر ـ أن يتم نشر هذه الكتب عن طريق دور نشر عالمية يمكن التقاعد معها بالطرق التجاريّة التقليديّة، ومن دون تدخل من وزارات الإعلام، فتضمن وصول الكتاب إلى حيث يجب أن يصل ـ إلى القارئ ؟
أما عن إنتاج الأفلام السينمائيّة والتلفزيونيّة عن البلاد العربيّة، ولا سيما دول النفط. علينا أن ندرك، أنه إذا أنتجنا هذه الأفلام ـ وبغض النظر عن مضمونها ـ فيجب التساؤل عن دور السينما التي ستعرضها، أو عن محطات التلفزيون التي ستقبل ببثها. الأهم من ذلك العلم أن الصهيونية العالمية قد اشترت دوراً للسينما ومحطات للتلفزيون قبل أن تفكر في إنتاج أفلام لعرضها. لماذا نصّر دائماً على وضع العربة قُدَّام الحصان ؟ أليس من الأنسب دراسة كيف تدار وتعمل دور السينما ومحطات التلفزيون في أوروبا وأميركا والتي لا تتحكم فيها وزارات الإعلام ـ غير الموجودة أصلاً ـ والتي يديرها في بلادنا مجموعة من {الخبراء} الإداريين والماليين، لا الإعلاميين ؟
وإذا دعونا الصحافيين الأجانب وقادة الأحزاب السياسية والطلاب والنقابات، لا نجد مسؤولاً واحداً يتسع وقته لاستقبالهم أو ليحدثهم حديث الواثق من نفسه وبهم، فيصبح همّ هذا المسؤول أن يكتفي هؤلاء الزوار بالجلوس في الفنادق الفخمة والاستمتاع بالضيافة الخليجيّة وتنشق الهواء العليل المشبع بالحرارة والرطوبة. وبعد هذا كله نطمح إلى التغلغل في الصحف الكبرى في الغرب {بشتى الوسائل الممكنة ولو بشراء الأسهم في ملكية بعضها}. كيف ذلك ؟
1. أولاً ـ أن أسهم هذه الصحف ليست مطروحة في الأسواق ليشتريها من يشاء.
2. ثانياً ـ يجب معرفة كيف تدار هذه الصحف ومن يسيطر على سياستها ومن يشرف على توجيهها، وأن ملكية كل صحيفة تختلف عن ملكية الأخرى.
3. ثالثاً ـ أن السيطرة على سياسة هذه الصحف قد تحتاج إلى غير المال. تحتاج إلى الرجال المهنيين الإعلاميين العارفين بأصول اللعبة وشروطها، لا إلى {الخبراء}.
وإذا تحدثنا عن خلق لوبي عربي {على غرار اللوبي الصهيوني في المؤسسات الحاكمة}. وتشبيه هذا اللوبي باللوبي اليوناني في الولايات المتحدة، فذلك يعتمد بالدرجة الأولى على العرب المقيمين في أوروبا وأميركا وعلى صلاتهم بالبلد الذي يقيمون فيه ومدى انتمائهم إلى وطنهم الأم ومدى نفوذهم وتأثيرهم في وطنهم الجديد. هذا النفوذ وهذا التأثر الذي يحدده بالدرجة الأولى فعالية العرب كمواطنين، لا كلاجئين ولا كزوار ولا كسياح في البلد المقيمين فيه، ومدى إحترام مؤسسات ورجالات ذلك البلد، من سياسية واقتصادية وإعلامية للجهد الذي يبذلونه وللخدمات التي يقدمونها قبل أن يعتمد على التمويل الخارجي. فما زال الرجال أهم من المال. وما زال المال العربي تائهاً وغبياً في مراميه.
لقد عارضت دول الخليج {إعلان الدوحة}، وسقطت الورقة القطرية من التداول الرسمي الخليجي. أغلب الظن لأنها صدرت في الدوحة ومن قطر، إذا أردنا أن لا ندخل في مزيد من تفاصيل المؤتمر. هذا ليس مهماً. المهم أن لا يسقط {إعلان الدوحة} في الدوحة نفسها، ولا يبرد الحماس القطري، ولا تفتر العزيمة القطرية في الإصرار على الخروج بهذا المشروع إلى حيّز الوجود. ولعل في هذا المجال تستطيع دولة قطر ـ والتي كانت سبّاقة في عدة ميادين إعلامية ـ أن تخرج بهذا المشروع وحدها إلى النور، وأن تدفعه إلى واقع التنفيذ وتفرضه على العرب، وبالرغم منهم، من أجل المصلحة العربيّة. وبذلك تكون قد أدّت إحدى أهم مساهماتها كدولة في خدمة أخطر وأهم القضايا التي تتعلق بكل الصورة العربيّة التي قد لا ينفع فيها مال عندما يعزّ الرجال.
كم أتمنى أن يتيح هذا الكلام مناسبة لفتح باب النقاش واسعاً أمام سماع مزيد من آراء العاملين في الحقل الإعلامي، بقدر ما أتمنى أن يبتعد مؤتمر وزراء إعلام دول الخليج السادس في مسقط عام 1981 عن تحكم آراء {الخبراء} في حقل الإعلام، وأن يتاح للإعلاميين الحقيقيين من صحافيين ومهنيين ممارسين أن يسمعوا صوتهم. فهم وحدهم الرجال في أمر يعنيهم مباشرة.
ولم يبق إلا أن يدرك ـ من يجب أن يدرك ـ أن الخبز يجب أن يعطى لخبازه ! .