حظك هذا اليوم !

للكاتب و الصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {المرافئ القديمة}

في إفتاحية مجلة المستقبل بتاريخ 1998/4/11

عندما أصدرت مجلة المستقبل من باريس، رفضت رفضاً قاطعاً تخصيص صفحة أو حتى عمود لباب {حظك هذا الأسبوع}، مع أنه باب مقروء ومنتشر، ولا تخلو منه ـ تقريباً ـ صحيفة أو مجلة عربيّة.

حتى الآن، لا أحد يعرف سبب هذا الرفض بمن في ذلك الرفاق الذين كانوا إلى جانبي ونحن نستعد لإصدار العدد الصفر.

بعد أكثر من عشرين عاماً، أعترف بالسبب.

السبب : لم أوافق على هذا الباب خوف أن أقع ضحيته، أي أن أكون أول المصدقين لما يرد فيه.

فأنا، حتى الآن ـ أصدق كل ما أقرأ عن {حظي} في أي جريدة أو مجلة، وفي أي لغة من لغات الأرض الحيّة، ولو وجدته في أي لغة انقرضت {غير حيّة الآن} لصدقته أيضاً.

والعلة في كل هذا، أنني خلال حياتي المهنيّة أعرف تماماً كيف يُكتب هذا الباب، ومن أين مصادره {وكيف يُفبرك أحياناً}، مع ذلك أصدقه.

ما فاجأني وأفرحني في آن واحد، أنني اكتشفت قبل أيام أن زميلاً كبيراً لنا {في العمر والمقام} مُدمن مثلي على متابعة حظه صحافياً، يبدأ بقراءة الجريدة من صفحة الحظ، أو يُقرأ له حظه بالتلفون حتى لو كان ... في الصين.

قبل أربعين عاماً بالضبط عندما صدرت {الأنوار} عام 1958، كُلفت إلى جانب عملي في {الصيّاد} عامذاك، الإشراف على الصفحة الأخيرة التي كنت أكتب فيها عموداً صغيراً يومياً، بعنوان {كلمة صغيرة}.

وكانت الصفحة تحتوي ضمن ما تحتويه على باب {حظك هذا اليوم}، وكان محرر هذا الباب يستغرب إلحاحي اليومي عليه كي ينتهي من الكتابة قبل ساعات أحياناً من الموعد المحدد له، وكانت {كذبتي البيضاء} عليه يومياً،أن المطبعة تُطالب به.

لم يعرف أن هذا الإلحاح كان لأنني محترق لقراءة حظي قبل نشره بأربع وعشرين ساعة، كي أعرف {مستقبلي} قبل جميع القراء والزملاء المحررين معاً.

لا أعرف ما حلّ بهذا الزميل.

قيل لي إنه هاجر إلى بلد بعيد خلال الحرب، ولا أعرف إذا كان يعرف يومذاك سرّ {تدليلي} له وسر إصداري على زيادة راتبه كلما استطعت، لكنه يعرف حتماً كيف كنت أمضي وقتاً طويلاً معه كل أسبوع أستقصي منه {وبدقة} من أين يأتي بمعلوماته، وكان يشرح لي تفصيلاً المجلات والدوريات ـ بل الكتب ـ التي تمدّه بتفاصيل حظ العباد يومياً.

وكان ـ أعاده الله من غربته ـ يأخذ عمله بمنتهى الجديّة، ويشعر بالإهانة إذا اتهم بأنه {يُفبرك} هذه الحظوظ.

وتوثقت العلاقة بيني وبينه إلى درجة أنه صار يطلعني على حظي سلفاً لمدة أسبوع، ثم لمدة شهر كامل.

ومع الزمن اكتشفت أنني لست وحدي في هذا المرض، اكتشفت أن معظم القراء يشاركونني فيه، بل أن بعضهم يقرأ الباب قبل {المانشيت} غالباً.

أما الذي لا أنساه، ولن أنساه، فهو إستغلالي هذا الباب ضدّ سياسي لبناني لم أكن أحبه.

قبل التفاصيل، مقدمة :

يومذاك في {الأنوار} و{الصيّاد} كان شبه محظور علينا نحن الصغار الكتابة {وخصوصاً المقالات} في السياسة، وعن السياسة المحليّة {اللبنانيّة}، إذ كان أمرها متروكاً للكبار، وعلى رأسهم عميد  الدار الراحل سعيد فريحة، والكاتب الكبير المرحوم اميل الخوري، وأحياناً الرئيس الراحل الكبير تقي الدين الصلح، ومرة أو مرتين الشاعر الكبير أمين نخلة، والناقد العلاّمة مارون عبّود والشاعر المتألق جداً سعيد عقل وغيرهم.

والمحظور الأكبر كان الكتابة عن السياسيين اللبنانيين، وخصوصاً إذا كانت تربطهم بعميد الدار صداقة.

السياسي الذي لم أكن أحب كان أحد أصدقاء عميد الدار، لذلك لم أستطع أن أترجم عدم حبي {أو إحترامي} له كتابةً.

إلى أن شاء سوء حظه أن أقرأ ذات يوم عن إحتفاله بعيد ميلاده وأن أعرف من {الأستاذ} سعيد في اليوم ذاته أن هذا السياسي مُدمن على قراءة باب الحظ.

ومنذ تلك اللحظة {إستلمته} كما يقال.

كل يوم صرت أصحح في حظه الذي يكتبه زميلنا.

فإذا نجا يوم الخميس من حادث تصادم، لحقته الجمعة بحريق متوقع في منزله، ويوم السبت أمنعه من مغادرة المنزل، ويكاد لا يرتاح يوم الأحد {لأننا لم نكن نصدر} حتى يقرأ عن مرض سيطرق بابه مساء الإثنين .... وهلم جر.

لا أدري كم لعب خيالي في إنهاء هذه {اللعبة} مع السياسي، لكنني عندما رأيته خارجاً من مكتب عميد الدار بعد أسبوعين لاحظت على وجهه شحوباً وإصفراراً غريبين، وهو الذي كان معروفاً بنضارته.

ليتذاك أشفقت عليه، وكتبت له : الحظ سيبتسم لك بعد طول غياب، أمامك أيام سعيدة هانئة.

في المساء {أمرنا} الأستاذ سعيد أن نرافقه إلى منزل السياسي ولم يقبل إعتذار  أحد منا، لأن الحفلة كانت مُقامة على شرفنا، وذهبت مضطراً ... لأفاجأ بالنضارة تعود إلى وجه السياسي، وضحكته تملأ المنزل والشارع، وأصرَّ على أن يُقبّل كل واحد منا عند الإستقبال ثلاث قبلات متوالية، وهو يصرخ : أهلاً، أهلاً، أهلاً.

أما الزميل الذي كان يكتب باب الحظ فقد قبله .... خمس مرات.

{للأمانة الصحافية لن أنشر إسم هذا السياسي، إذ أن الأستاذ نبيل خوري قد سماه لنا}