للكاتب والصحفي الكبير رياض نجيب الريّس من كتابه {قبل أن تبهت الألوان}

كُتب هذا المقال في لندن بتاريخ 24/3/1984

التاريخ يعيد نفسه. التاريخ لا يعيد نفسه

بين هذين النقيضين يتأرجح كتبة التاريخ من بحّاثة ودارسين وأكاديميين وصحافيين ومؤرخين محترفين، للعلم الذي قال عنه أحد أشهر المؤرخين البريطانيين أدوار غيبون مؤلف {صعود وسقوط الإمبراطورية الرومانية} أنه: (ليس أكثر من سجل لجرائم وحماقات ونكبات البشرية).

ولأن سجل الشعوب حافل بالجرائم والحماقات والكوارث، لا يهم الصحافي الرافض للأحداث السيّارة أن يتذكّر قولاً لبريطاني آخر هو اللورد ديزرائيلي ـ رئيس الوزراء في القرن التاسع عشر ـ الذي قال: (إن ممارسة السياسة في الشرق يمكن تحديدها بكلمة واحدة ... الرياء).

إن ممارسة السياسة في الشرق ـ أي الرياء ـ هي التي أوصلت شعوبنا إلى ارتكاب كل هذه الحماقات والجرائم وأوقعت به كل هذه الكوارث. ولأن التاريخ ينذرنا أيضاً أن من عادة الأقدار أن تبدأ الحقائق الجديدة بهرطقة وتنهيها كخرافة. وبين الهرطقة والخرافة يقع الصحافي المراقب في الفخ: التاريخ يعيد نفسه أم التاريخ لا يعيد نفسه ؟

التاريخ ليس علم التوقعات. لا أحد يستطيع أن يقرأ منه مسار الأحداث المقبلة. ولا هو شيء ثابت يتكرر باستمرار. ولا هو سلسلة قوانين تنبئ بالمستقبل. لأن التاريخ كفنٍّ تفسيري يستطيع أن ينبئنا عن نزعة الأحداث وأن يلفت نظرنا إلى معنى التطورات بحيث نستطيع أن نميّز بين الممكن والمستحيل.

أرجو السماح لهذا الصحافي أن يلجأ إلى حمى التاريخ، بعيداً عن المتغيرات السياسية اليومية في محاولة لطرح قضية الشرق الأوسط من خلال التأرجح بين هذين النقيضين.

لنبدأ من المحاولة الأميركية للعب دور أساسي في المنطقة العربيّة وفي التأثير على أحداثها، إذ يظن للوهلة الأولى أن الولايات المتحدة قد اتعظت من قراءة ودراسة تاريخ ثلاثة قرون ونيف لهذه البلاد قبل أن تصل إلى تورّطها المعروف اليوم وخاصة أن من الممكن، إما لأسباب تتعلق بعلم الجغرافيا أو علم الأعراق البشرية، أن يعاد تركيب التاريخ بحذافيره في هذه المنطقة، بحيث لا نحتاج إلى أكثر من تغيير أسماء اللاعبين وإجراء تعديلات طفيفة في بعض الأدوار في مسرحية الشرق الأوسط المتكررة.

لنرفع الستار عن موت الإسكندر الكبير عام 323 ق.م وانقسام إمبراطوريته إلى ما هو معروف اليوم بالشرق الأوسط إلى قسمين، يحملان أسمي قائدين مقدونيين : البطالسة في مصر وعاصمتهم الإسكندرية، الذين سرعان ما حملوا عبء مصر الفرعونيّة وتقاليدها.والسلوقيون في سوريا وبلاد ما بين النهرين، وعاصمتهم في إنطاكية وبابل، الذين حملوا عبء الهلال الخصيب في تعددية شعوبه وفردية أبنائه. 

وسرعان ما تدخل هاتان القوتان في صراع على بقايا إمبراطورية الإسكندر الكبير، الذي كان مسرحه فلسطين. وفي فلسطين اصطدمت مصر البطلسية وسوريا السلوقية. وكان قد وصل إلى فلسطين في ذلك الوقت مهاجرون يريدون أن يقيموا فيها دولة دينيّة عسكرية متعصبة. لقد وصلوا من بابل ولم يصلوا لا من ألمانيا ولا من روسيا ولا من بولندا.

كان السلوقيون والبطالسة يعانون من متاعب أساسية خارج الحلبة الفلسطينية. مصر لم تكن مؤهلة ولا مهيأة لتكون مركزاً لإمبراطورية آسيوية مترامية الأطراف. أما سوريا فكانت قد بدأت تشعر بالتمزّق بين جناحها في المتوسط وجناحها الآخر ما بين النهرين الذي أخذ يشهد انبعاث شيء من {القومية الإيرانيّة} في مصطلح اليوم. كما بدأت الضغوط تزداد على طرفها الغربي في إنطاكية من قبل اليونان.

وهكذا رسم التاريخ بداية المشهد الأول للدراما الفلسطينية، التي أفرزت في ما بعد المواجهة العالمية بين اليهودية والمسيحية والإسلام.

وخلال الصراع بين السوقيين والبطالسة قررت سوريا السلوقية تحقيق انتصار عسكري وثقافي حاسم في فلسطين. عند هذا المنعطف وقع الحدث غير المتوقع إذ وقعت نتيجة للاحتكاك العسكري والإغراءات الثقافية انتفاضة عام 168 ق.م التي تحولت بدروها إلى ثورة ناجحة حولت معها فلسطين من بلد ديني يلم شتات البابلين، مستسلماً للغيبيات السماوية، إلى دولة عسكرية محاربة عرفت باسم الدولة المكابية. وتربع المكابيون في فلسطين عقداً وراء عقد.

في هذه الأثناء كانت قوة جديدة قد بدأت تظهر في غرب المتوسط، ذات تنظيم دقيق وانضباط غير معروف في شعوب ذلك الزمان، وذات تكتيك عسكري وسياسي بارز في الدول التي قامت حتى ذلك الوقت. فقد بدأ نجم روما يصعد وبدأ الرومان يصبحون أسياد الغرب.

بدأ التحرك الروماني بقيام حلف بين مصر وروما، لمنع السوريين السلوقيين من الإتحاد مع المصريين البطالسة، أو بكلام آخر من منع سوريا من ضم مصر. وكان رموز هذا الحلف ومن ثم مأساته كليوباترة ملكة مصر ومارك أنطونيو قيصر روما. وكان هذا بداية الزحف الروماني إلى الشرق، الذي أمتد إلى اليونان والأناضول وسوريا ومن ثم مصر نفسها، حتى وصل إلى فلسطين عام 70 ق.م ليقضي على دولة المكابيين.

وهكذا قرع الغرب بدخول الرومان إلى فلسطين أبواب الشرق بيد مضرجة ودخله وأقام في أرجائه وورث أعقد قضايا التاريخ قاطبة.

أمام هذه الخارطة الجغرافية السياسية للعالم القديم، سنحاول أن نقوم بلعبة تغيير في الكراسي الإستراتيجيّة، فنكتب فوق الأسماء القديمة أسماء اليوم الجديدة.

فبينما العراق (بابل) وإيران (فارس) يتحاربان فوق رقعة هذا التاريخ، تحاول سوريا (إنطاكية) تارة بالتحالف مع مصر وتارة بالعداء معها، احتواء دولة إسرائيل العسكرية (المكابيين) التي تقع بينهما. إلا أن الجزء الأساسي لهذه اللعبة هو القوة العالمية المتصارعة على هذه الرقعة. هنا يصبح تغيير الأسماء فضّاحاً. القوى الكبرى القادمة من الغرب الولايات المتحدة (روما) بالتحالف مع اليونان وتركيا (أناضوليا) تحاول أن تمتحن دبلوماسيتها بالدخول إلى غابة الشرق السياسية بحماس منقطع النظير لتتابع اللعبة التاريخيّة التي بدأها السلوقيون والبطالسة والمكابيون.

إلى هنا وتنتهي المقارنة. إذ هناك فارقاً أساسياً وشاسعاً بين روما والولايات المتحدة يمنعنا من التمادي في إيصال الماضي وربطه بالحاضر. فالمسرحية القديمة تقف عند هذه الحدود إلا إذا جاءت في إيصال الماضي وربطه بالحاضر. فالمسرحية القديمة تقف عند هذه الحدود إلا إذا جاءت روما جديدة وغزت سوريا وجاء إمبراطور آخر وسبى القدس. الفارق ليس في عدم التوازن بالثورة أو القوة بين الولايات المتحدة وروما. إنما في الفارق بين كون الولايات المتحدة قارة بعيدة ذات شعب متعدد الأصول، وبين روما الجمهورية الصغيرة غير المستقرة القريبة ذات الشعب الواحد المتجانس.

إلا أن الفارق الحقيقي الحاسم هو أن روما تنتمي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط إذ لا بد أن يكون لديها إمبراطورية متوسطية، تسعى إليها أرادتها أم لم تردها. بينما الولايات المتحدة لا تنتمي إلى المتوسط لا حوضاً ولا جغرافية ولا شعوباً. وأميركا ليست محكومة كروما بضرورة تواجدها في مياه المتوسط أو في سواحله.

إن ورثة السلوقيين والبطالسة في هذا العصر، كذلك ورثة الفرس والمكابيين الحديثين عندما يرون الأسطول السادس الأميركي يقصف من مياه البحر المتوسط جبال لبنان وسوريا، يهزون رؤوسهم أسفاً على هؤلاء القادمين من العالم الجديد إلى أقدم شواطئ الدنيا، ويقولون: يوماً ما سيعودون من حيث أتوا.

لم يقل أحد أبداً ذلك عن روما.

لا أريد لهذه المقارنة التاريخيّة أن تطول أكثر، حتى لا تصبح اللعبة أكثراً تعقيداً. لأن كثيراً ما يشعر الإنسان بشيء من الرعشة عندما يغوص في أعماق الماضي، إذ أنه في أحيان كثيرة لا بد من أن يتساءل عما إذا كانت وقائع التاريخ قد حصلت فعلاً، وكل سجلاته موثقاً بها.

لذلك توقفت مطولاً وبإعجاب عند حديث للدكتور صادق جلال العظم يحذر فيه العرب من الوقوع في {مكر التاريخ}. إلا أنني أود أن أذكّر الدكتور العظم لا بما تحدث عنه هيغل، إنما بما قاله كاتب كبير هو عبد الله القصيمي ذات مرة : {كم عاشقون، نحن العرب، لعار التاريخ}.

ومن يقبل بالعار لا يخاف المكر.