الصحافي والتاريخ 

للكاتب والصحفي الكبير رياض نجيب الريّس من كتابه {قبل أن تبهت الألوان}

كُتب هذا المقال في لندن بتاريخ 26/01/1985

هذا حديث من طرف واحد، لسؤال أراد صاحبه أن يجرني إلى حوار مع مجموعة من الشبان العاملين في الصحافة العربيّة، إلتقيتهم في رحلة من رحلاتي الأخيرة.

وليس القصد من هذا الحديث سوى تحديد موقفي أنا، كصحافي عربي يحتفل بعد حوالي سنة بمرور ربع قرن كامل على إحترافه هذه المهنة التي لم يعرف ولم يمارس سواها في حياته. وبالتالي يرى فيها تحديداً لمفهومه من الموضوعين المطروحين في هذا الحديث. وقد يبدو هذا الحديث {مونولوغاً} أكثر منه {ديالوغاً}. والسبب أنني تجاهلت فيه مجموعة الأسئلة التي طرحها هؤلاء الشبان، في محاولة مني لأن أصل إلى {بيت القصيد}. كل الذي أرجوه من هؤلاء الزملاء الجدد هو أن يعيروني صبرهم قليلاً، حتى يدركوا أن الأمور ليست بالسهولة التي تحدثوا بها، وأن طرح الأسئلة عادة، أسهل بكثير من الإجابة عليها.

وهذا الحديث تفرع إلى شقين أساسيين. الأول، عن علاقة الصحافة بالتاريخ. والثاني، عن موقف الصحافي من التاريخ. ومحاولتي التصدي لهذين السؤالين كانت إنطلاقاً من تجربتي المهنيّة، كما عانيتها شخصياً، وكما مارستها. وقد تلتقي أو تفترق مع غيرها من التجارب. لكنها حتماً لا يمكن أن تختلف مع جيلي من الكتّاب الذين إعتبروا أن مهمة الصحافي لا تنتهي بإنتهاء الحبر الذي في قلمه، ولا تبدأ مع الصفحات البيض التي يسعى إلى تسويدها. إنما هي مزيج من عشق التاريخ الذي يقبله والشغف بصنعه لعله يحرره.

ما علاقة الصحافة بالتاريخ ؟

كلما قلبت في أوراقي القديمة لأرجع إلى ما كتبته ـ أو كتبه غيري ـ عن قضية ما أو موضوع معيّن، أفاجأ بأن ما كتب منذ سنوات ما زال يصلح لأن يكون حدث ذلك الأسبوع، مع تعديلات طفيفة في بعض الأسماء والتواريخ.

وكلما واجهت حدثاً معيناً وأنا مسافر إليه من مكان إلى مكان، تساءلت عن مدى علاقة الصحافي بالتاريخ. فالصحافي الذي يكتب عادة بشكل يومي أو أسبوعي، يجد ـ من دون وعي مباشرة منه ـ أنه لا يحمل فقط في تعليقه أو رأيه أو تحليله، حصيلة الساعات الأربع والعشرين الأخيرة أو الأيام السبعة الماضية فقط، إنما في أحيان كثيرة تراكمات وارهاصات القضية التي يتعرض لها بقلمه خلال جيل بكامله. فالصحافي الجاد لا يمكنه أن يتفادى كونه مؤرخاً.

هناك من يقول أن مهمة الصحافي ومهمة المؤرخ على طرفي نقيض. لأن دور الصحافي أن يكتب ويسجّل ويعلّق على حدث الحاضر، بينما دور المؤرخ ومهمته البحث والتنقيب عن أحداث الماضي. لا شك أن الخيط الرفيع الذي يفصل بين التاريخ والصحافة، لا بد وأن يؤدي إلى مناقشة دور الصحافي وأين ينتهي، ودور المؤرخ وأين يبدأ. وهذه المناقشة تشكل موقفاً زمنياً يتغير بتغير الحقبة التي نحن فيها. ولما كان الزمان عملية مستمرة لا تخضع، لا للنقاط ولا للفواصل إلا ما نقرر نحن أن نضعه في طريقها، فلا بد أن يختلط الدوران في آن، ويتممان بعضهما البعض في آن آخر.

لعل كل كاتب يتعاطى بأحداث العالم الحقيقيّة، أكان صحافياً أم مؤرخاً، هو مجرد رحالة في عالم الحدث الزمني المتحرك، قدره أن لا يصل أبداً. فالزمان كالنهر الموحل الهادر من نبع غير مكتشف، ليصب في بحر ضائع في الجغرافيا مجهول السواحل.

إختلاط الدورين ـ دور الصحفي ودور المؤرخ ـ يمارس يومياً عندما يتساءل صناع مهنة الأخبار عن الجديد في خبر أو حدث. فإذا كان جيداً أستحق النشر والتعليق وأصبح ملك الصحافي. وإذا لم يكن جديداً مات على طاولة المحرر أو في صدره تلك الليلة، وأصبح ملك المؤرخ إذا شاء أن ينقب عنه في ما بعد.

وكلما حول الصحافي فهم الحاضر، ليضعه في إطار معيّن، ويقدمه ويفسره للقارئ، كلما شعر بحاجته للعودة إلى الماضي. إن سبر أغوار ضبابيّة الحاضر، يحتاج من الصحافي أن يتكئ على مراجع من الماضي هي بمثابة علامات فارقة لأحداث اليوم. إن حس التاريخ وإستمراريته لدى الصحافي هما اللذان تجعلانه قادراً على أن يمسك باللحظات التاريخيّة اليوميّة، وتصبح أدوات في متناول يده يحقق فيها ويثبت منها ويعيد تحليلها على ضوء معطيات الحدث المعاصر الذي يتناوله.

ما هو موقف الصحافي من التاريخ ؟

موقف الصحافي من التاريخ ليس موقفاً محايداً. فالصحافي الحقيقي الجاد والمؤثر والفعال ليس صحافياً حيادياً. فالصحافي الذي لا يشعر بالغضب وبالثورة وبالقرف ـ وكذلك بالفرح، والصحافي الذي لا يشعر بحاجته إلى الصراخ والتساؤل والشك ـ والتشكيك أيضاً، ليس صحافياً مستوعباً ولا هاضماً للتاريخ. وبالتالي لن يكون شريكاً أو مساهماً في صنعه. ربما يكون شاهد زور عليه، وإن كان محلفاً.

وموقف الصحافي من التاريخ، يخضع لتساؤل أساسي : من يصنع التاريخ ؟. القلة أم الكثرة من الناس ـ أم كلهم ؟ وهل صناعة التاريخ تعتمد على قوانين كونيّة أم أن مجموعة أفراد هي التي تتحكم في صنعه ليس إلا ؟

إن الرد على هذا السؤال ما زال معضلة أزليّة، لم يجد لا المؤرخون ولا الفلاسفة ولا السياسيون حلاً لها حتى الآن. والرد على هذا التساؤل يسقط أي صحافي في فخ قديم، حيث أن كل جواب يحمل في طياته تناقضاته نفسها. لكن هذا التساؤل هو أمر أساسي لأي صحافي. لأن الصحافي نفسه ـ مهما طال باعه ـ لا يعرف في النهاية إلا مجموعة الأفراد الذين هم في السلطة، أو مجموعة المعارضين الذين يريدون قلب السلطة والإستيلاء عليها. إذن، ما زال ذلك الصحافي ـ مهما أتسعت دائرة إتصالاته ـ يدور في إطار القلة من الناس. التي تحكم أو التي تريد أن تحكم. وإذا كان الصحافي متفوقاً بحدسه وحاسة شمّه قد يعرف أين تقف الكثرة من الناس ممن هم القلة في السلطة أو خارجها.

إن إحدى محاولات الإجابة على هذا التساؤل هي في الحل الوسط، الذي يقول إن التاريخ يصنعه الكل ويصنعه البعض أيضاً. فالبعض، لأنهم يبرزون كزعماء في اللحظة التاريخيّة المناسبة، حيث استطاعوا أن يجيروا تلك اللحظة لصالح زعاماتهم، يدخلون التاريخ ويحتلون حيزاً فيه، والكل، لأنهم أتاحوا لهؤلاء البعض اللحظة التاريخيّة المطلوبة لزعامتهم.

لكن الصحافي بحكم الممارسة اليومية لعمله، إي الإختلاط بالقلة، لا يمكنه إلا أن يقف بجانب الفيلسوف البريطاني، برتراند راسل، الذي قال عام 1956، في كتابه {لوحات من الذاكرة ومقالات أخرى} : (إذا كانت شعوب العالم ستعيش أو ستموت، فهذا الأمر يعود كلياً إلى قرار يتخذه خروتشيف أو ماو تسي تونغ أو جون فوستر دالاس، لا إلى قرار يتخذه ناس عاديون يحيون ويموتون مثلنا، إذا قال هؤلاء {موتوا} متنا، وإذا قالوا {عيشوا ـ عشنا).

واليوم بعد 28 سنة من هذا القول، لا أعتقد أن برتراند راسل كان مخطئاً. فالصحافي لا يستطيع في دور المؤرخ الشاهد على عصر أو حقبة ما، أن ينفي أن بقاء البشرية أو فناءها يتوقف على بضعة أشخاص فقط. يتوقف على أحلامهم وطموحاتهم. على عنادهم وإرادتهم، على حبهم وكرههم. على عواطفهم وأحقادهم. وإن هؤلاء الأشخاص قادرون عبر مبادرتهم أن يشعلوا ثورات وحروب. وكذلك هناك أشخاص آخرون، قادرون عبر مبادرات بسيطة، كأغتيال طاغية ما مثلاً ـ أن يضعوا حداً لطموحات وأحلام هؤلاء الأشخاص، فيغيرون من مجرى الأحداث ويقررون أقدار الأكثرية منا.

إن هذا المنطق لا بد وأن يجر الصحافي إلى الوقوف مع نظرية القلة ـ أو النخبة إن شئت تعظيمها ـ التي هي وحدها تصنع التاريخ. وقد يكون في هذه النظرية إساءة أو إنقاص من أهميتها ـ نحن الأكثرية ـ حيث يحيلونا إلى قطع بيد راع صالح ـ أو عادل مستبد ـ أو طاغية مقيت، أي إلى مجرد ورقات تتطاير أمام رياح التاريخ. لكن التاريخ نفسه قد أثبت بيقين تام أن القلة هم الذين يخلقون الأفكار ويصنعون الإكتشافات ويغتالون الطغاة أيضاً.

ويتساءل الصحافي ـ الذي يقوم بدوره الحتمي كشاهد ومؤرخ ـ عن هوية هذه القلة، التي يعرفها ويتعاطى معها بحكم ممارسته لمهنته.

هل هي أكثر ذكاءً من نحن الأكثرية ؟

هل هي أقوى منا ؟ 

أكثر علماً وفهماً ؟

أكثر جداً واجتهاداً منا ؟

أم هي مجرد مجموعة عاديين مثلنا لا أفضل ولا أسوأ منا، لا يستحقون لا غضباً ولا إعجاباً ولا حتى حسدنا ؟

وكثيراً ما يتساءل صحافي القرن العشرين وصانع التاريخ اليومي، وقد وصل هذا القرن إلى مشارف نهايته ومعها وصلت الثورة التكنولوجيّة في حقلي الإتصالات والإعلام إلى ذروتها، كيف كان من الممكن مثلاً أن يدلي صلاح الدين الأيوبي بحديث صحافي له. أو كيف كان تصرف يا ترى أمام كاميرات التلفزيون وميكروفونات الإذاعة ؟

إن صحافي هذا العصر لا يثق كثيراً بتاريخ غير مسجّل ولا يثق في آلة التسجيل ولا في كاميرا ولا حتى في الإختزال. بالكاد ببعض الوثائق وبشهود تناقلوا عن بعضهم البعض أقوالاً وأحداثاً وروايات غير متفق عليها وغير مقروءة حتى الآن.

كل هذا يدفع صحافي اليوم إلى المزيد من الإعتقاد بمشاركة في صنع التاريخ. لأنه تاريخ مكتوب في كل لحظة من لحظات الليل والنهار. من الممكن نقله وتسجيله وتصويره وتوثيقه وحصر أنفاسه وتحليله وتفسيره ومناقشته فوراً.

لذلك فالصحافة أمر مخيف إذا نُظر إليها بمنظار تاريخي. أية مهنة سواها تتيح لك أن تكتب التاريخ ـ في اللحظة التي يُصنع بها ـ ويكون الصحافي فيها بالذات شاهدها المباشر ؟

ليس من الضروري أن يكون الصحافي هيرودوت. فمهما كان دوره صغيراً أو هامشياً، فهو يقدم شيئاً للتاريخ. يقدم قطع الفسيفساء الصغيرة التي يصنع منها الزمان لوحتها الكبيرة. لذلك من المسموح للصحافي أن يخطئ في نقله أو اجتهاده. لأن هناك المؤرخ الذي لا بد أن يأتي من بعده ليصحح هذا الخطأ وهو ينقله إلى فسيفسائه الكبير. لأن مهنته الأساسيّة هي أن يقدم للناس، أي للكثرة، المعلومات التي تدفعها إلى التفكير بأخبار القلة.

لكن ليس كل صحافي يفهم معنى السلطة. فالقلة التي هي في السلطة ـ أكانت رئيساً منتخباً ديموقراطياً أم حاكماً مفروضاً سلطوياً ـ ليست إنساناً مختلفاً عنا، قد يكون أقوى وأذكى أو أكثر طموحاً منا، لكنه في النهاية جزء من هذا القطيع المحكوم الذي هو نحن. لذلك فإن فهم السلطة أمر ضروري لكل صحافي. كذلك فهم الذين يعارضون السلطة وينتقدونها. وعلى الأخص، فهم الذين يتمردون عليها. وهنا يمكن تحديه الأكبر الذي يحدده موقفه من التاريخ.

خلال الإحتلال النازي لليونان إبان الحرب العالمية الثانية، كتب رجال المقاومة اليونانيّة على الأحجار والصخور في جبال وغابات ووديان جزرهم العديدة، كلمة مؤلفة من ثلاثة أحرف  O.X.Iـ (أوخي) ـ ومعناها {لا}. ولأكثر من ثلاثين سنة ظلت هذه الكلمة محفورة لا تمحوها الشمس ولا يذيبها المطر. ولما جاء حكم الكولونيلات إثر إنقلاب عسكري عام 1968، كان أول عمل قاموا به هو الأمر بإزالة هذه الكلمة، أينما وجدت في اليونان. وجندت السلطة العسكرية المئات من أجل هذه المهمة. وفجأة عندما سقط نظام الكولونيلات وعادت الديموقراطية إلى اليونان بعد سنوات، أذابت الشمس والأمطار الطلاء الأبيض الذي حاول العسكر أن يطمسوا به هذه الكلمة. وعادت كلمة {لا} إلى الظهور بعناد التاريخ وقوته معاً.

إن مهمة الصحافي، في تعمله مع التاريخ أن يبقي هذه الكلمة اليونانيّة محفورة في قلمه كلما لامس صفحات الورق. لأن رسالته الحقيقية هي أن يقول {لا} في عصر لا يحتمل إلا كلمة {نعم} !.