عصر { الهلس }
للكاتب والصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {آخر النهار}
نشر هذا المقال في صحيفة النهار بتاريخ 9/8/1997
بلا مبالغة، كتبتُ في حياتي الصحافيّة أكثر من عشرين ألف مقال، ونُشر في نهاية العام الماضي كتابي الخامس عشر، ولا أستطيع أن أحصي عدد التعليقات الإذاعيّة التي كتبتُها {وأذعتها} وظهرتُ على شاشة التلفزيون أكثر من عشرين مرة.
الناس، أو معظم الناس، لا يذكرون أو يتذكرون من كل هذا، إلا ما قلته على الشاشة الصغيرة، التلفزيون.
هل نحن على أعتاب نهاية عصر الكلمة المكتوبة {ومن يكتبها} وبداية عصر الكلمة المرئيّة والمسموعة في آن واحد ؟
أتفه مذيعة تلفزيونيّة اليوم يعرفها الناس أكثر مما يعرفون نجيب محفوظ.
وأصغر قارئ للأخبار على الشاشة الصغيرة أشهر من أي كاتب صحافي، أمضى في مهنة المتاعب {وليس البحث عنها}، ما يقارب نصف هذا القرن.
هل يعني هذا أن نكسر أقلامنا، ونسارع إلى طلب وظيفة، أي وظيفة، في هذا العالم {عالم التلفزيون} الذي فرض نفسه على بيوتنا وحياتنا معاً ؟
شاعر مغمور، يقدمه مذيع {أغمر} مدة دقائق، فيقرأ قصيدة أو قصيدتين لا تنشرهما أي جريدة أو مجلة تحترم نفسها، يصل حتماً بشعره إلى عدد من الناس يفوق بكثير الذين قرأوا للمتنبي، والذين سيقرأونه.
إذا قلت لأحد أنك لا تزال تكتب بالقلم على ورق أبيض، كما كان يفعل كل من سبقك إلى الكتابة منذ اختراعها، وأنك لم تصل بعد إلى الكتابة على الكومبيوتر، نظر إليك باحتقار، وإذا كان ودوداً نظر إليك بشفقة.
كان الناس ينامون مع كتاب، صاروا ينامون مع كاظم {الساهر}.
حتى متعة كتابة الرسائل وتلقيها، هي في طريقها إلى الانقراض، فقد طحش عليها {الإنترنت} والـ {emaiel}. لن يرسل إليك أحد، أو ترسل إلى أحد رسالة معطرة تحتفظ بها سراً في خزانة الذكريات، أقصى ما تطمح إليه أن تتسلم رسالة عبر الآلة الباردة.
لدي شعور أنهم ينتظرون رحيلنا، أو توقفنا عن الكتابة، أو وصولنا إلى مرحلة اليأس، كي يحولنا إلى {سوق البرغوت} للأنتيكا، سواء في بيروت، أو في باريس.
تعزي نفسك بأن ما يحدث عابر لن يستمر طويلاً، طفرة، كأغاني الشباب، وأن عهد الكلمة المكتوبة {بالورق والقلم}، لن يهزه هذا الإعصار الآتي من الغرب، وأن ألف كاتب تلفزيوني لن يصل إلى ركبة طه حسين، أو توفيق الحكيم، وأن ألف مطرب {فيديو كليب} لن يطاول حذاء محمد عبد الوهاب، أو أم كلثوم.
أنت تكابر.
فلم يعرف {الملايين} نجيب محفوظ إلا عبر نقل أدبه إلى الشاشة الصغيرة، قبلها كانوا بالآلاف التي لا تتعدى أصابع اليدين، إن لم نقل اليد الواحدة.
والملايين أيضاً شاهدوا ورقصوا على أغنية {نور العين} لعمرو دياب التي قيل أنها باعت مليون نسخة من الكاسيت، بينما {جندول} عبد الوهاب، أو {أراك عصي الدمع} لأم كلثوم، تحاول ـ فقط تحاول / أن تصل إلى ما وصلت إليه أغنية واحدة لجورج وسّوف ونجوى كرم.
هل تستقيل، لأن العصر سبقك، أو لأنك فشلت في اللحاق به ؟
طبعاً لا.
لأن هذا يعني إقرارك الكامل بالهزيمة. عليك أن تستمر، وأن تقاوم، وأن تبقى، وأن تكتب، لأنك أنت ـ أنت وحدك ـ {ككاتب} ستبقى، لأن ما سيبقى، على رغم {عصر الهلس} الذي يغرق العالم، هو الكلمة المكتوبة.
منذ آلاف السنين كانت، وإلى آلاف السنين ستبقى.
أما إذا كسرك هذا العصر، وخسرت، فحسابك أنك لم تنحنِ.