الحي اللاتيني والخندق الغميق 

 

للكاتب والصحفي سمير عطا الله من كتابه {مسافات في أوطان الآخرين}

مضت سنوات كثيرة الآن على رواية {الحي اللاتيني} وعلى الضجة الأدبيّة التي أثيرت حولها في ذلك الوقت. والواقع أنني لا أذكر تفاصيلها تماماً ولا يزال يشكل عليّ حتى الآن ما إذا كان {الخندق الغميق} قصة أخرى من أعمال سهيل أدريس، أم أن أحد النقّاد رأى في {الحي اللاتيني} مجرد انعكاس على الزجاج العاطفي بحي الخندق الغميق ولهجرة الدكتور أدريس إلى فرنسا والتجربة الإنسانيّة التي جعلته يعود منها بـ {الحي اللاتيني}، مؤلفه الشخصي الوحيد وسط مجلدات ضخمة من الأبحاث والترجمات وأعداد {الآداب}.

لكن {الحي اللاتيني} برغم تآكل الذاكرة، لا يتغيب عن بالي كلما حملت في خزانة العقل والهوى ذلك العصر الذهبي في بيروت الشاعرة. وقد استعدتها الآن بقوة عندما خطر لي أن أكتب قصة حقيقيّة حدثت معي في منتصف الستينات. قصة فتاة عرفتها من بعيد وعشقتها من بعيد وكانت تحذرني من أن أقترب منها، فلم أذعن، فلما قاربتها ذات يوم تركت في قلبها خيبة أخرى وتركت في قلبي مأساة.

ولم أكتب هذا الفصل من قبل لشعوري بأنه سوف يبدو كأنه تقليد للدكتور سهيل أدريس في {الحي اللاتيني}، أو ربما في مجموعة أخرى من مجموعاته القصصيّة القصيرة التي تدور في باريس أو في {الخندق الغميق}.

يا إلهي كم اختلط الأمر عليّ وكم أصبحت بعيداً من قراءات ما قبل التاسعة عشرة. لكن لا بد لي الآن من أن أروي قصة تلك المرأة التي مرّت في حياتي على كرسي ذات عجلات.

وإكراماً لـ {الحي اللاتيني} و{الخندق الغميق} لا بد من التوقف قليلاً عندهما. لقد كان {الحي اللاتيني} صورة رائعة للمعاناة ـ أو الفرح ـ اللذين مرّ بهما مهاجر من الشرق في باريس، وبالذات في {الحي اللاتيني} الذي كان في الأربعينات والخمسينات ميناء التيارات الفلسفيّة الوجوديّة ومربط الإنحلال الفكري والبشري الذي عمّ أوروبا بعد الحرب.

وها هو أدريس الشيخ الأزهري الشاب، يأتي إلى السوربون لكي يستكمل علومه فتنفتح أمامه على مصاريعها إغراءات المدينة الغانية وهو العربي المعمّم. ولم تكن {الصدمة الثقافيّة} صدمة سهيل أدريس وحده. كان هناك جيل كامل من المشرقيين قد بدأ يطل على باريس، معمماً من الداخل والخارج معاً، وسرعان ما تصبح مأساته في أن يحسر عن رأسه ... من الداخل والخارج معاً، أو أن يعيش هو في مكان وجسده في مكان آخر، أو أن يعيش الإثنان في حرب.

هذه الحرب، التي سوف يسمّيها الأميركيون في ما بعد {الصدمة الثقافيّة}، كلما اقتربوا من نهاية القرن، أي إنتقال المرء دفعة واحدة من عصر إلى عصر، لم يكن رائدها سهيل أدريس، فهو لم يكن أول المحافظين الذين سافروا إلى باريس ولا آخرهم. فقد سبقه إليها طه حسن وتوفيق الحكيم وسلامة موسى، كما سبقته قبل زمن طويل مجموعة من اللبنانيين.

لكن المجموعة المصريّة اختارت الفلسفة، أما المجموعة اللبنانيّة، من أمثال شكري غانم، فقد إختارت السياسة والشعر، وترك الجميع للدكتور أدريس أن يروي معالم {الصدمة الثقافيّة} للمشرقي المعمّم الذي وجد نفسه ممزقاً بين محافظة {الخندق الغميق} والأغاني المتصاعدة من أقبية {الحي اللاتيني} في ذلك الزمان.

{الحي اللاتيني} لا يزال هنا، إنه على بعد أمتار من أي مكان، حي وحارة ويعج بالذين هم دون العشرين. والسوربون هنا أيضاً، وساحتها، وتمثال أوغست كونت على البوابة الحديديّة الكبرى، ومكتبات الـ {سان ميشال} والجسور و{الروكوجاس}، كل شيء هنا. لكن الخندق الغميق قد زال وتحوّل إلى ركام ومتاريس في حرب الأسواق ومحاشش وأشباح في عتم الحرب.

لكن هذا ليس {الخندق الغميق}. {الخندق الغميق} يا صديقي كان تلّة صغيرة عليها جريدة {الهدف} وضحكة زهير عسيران، ثم طريق صغيرة تؤدي إلى المعرض، إلى نهاية المعرض، مروراً بالسور {عفواً عالسور}، مروراً طبعاً بقناطر التياترو الكبير، حيث يبدو لي كأن فيلماً واحداً ظل يعرض في تلك الصالة البهيّة، بعدما فقدت مجدها على أيام أهلنا... هو فيلم {رابعة العدويّة} !.

لكن في تلك المساحة الصغيرة من الحجار القديمة وأصوات السيارات وأتعاب الحمالين وبائعي الكعك والكازوز وسجائر الـ {لاكي سترايك} بالمفرق {الثلاثة بربع والدين ممنوع والعتب مرفوع والرزق على الله} وتحت تلك القناطر الأثريّة الرائعة، وفي المكاتب الخشبيّة الفقيرة العارية وخلف المكاتب المكسورة الزجاج وفوق الكتب المعروضة على الأرصفة، كأنما الرصيف رفّ من رفوف السوربون أو مكتبة الكونغرس...

في تلك المساحة الشحيحة الضيّقة من بيروت، كان الكثير من نور بيروت والكثير من نور لبنان، كان {الخندق الغميق} ينتج من الكتب أكثر مما ينتج الـ {فيفث أفنيو}. وبفضل حسن الزين الذي هو نقيض كل الوجوديّة الملحدة، كان سارتر يُقرأ بالعربيّة في بيروت في موعد صدوره في باريس.

كانت هناك دار العلم للملايين وكان هناك منير بعلبكي ودار طعمه ومكتبة لبنان وكل المكتبات المدرسيّة والقرطاسية وبيع أقلام الكوبياء وريشة الشهال والكتب العتيقة والمستعملة ودار الكتاب اللبناني ومكتبة أنطوان نوفل قبل أن تلحق بالمتبرجزين إلى الحمراء.... وكان هناك مترجم أكثر غزارة من هنري سيمونوف، وحتى من بلزاك، في ذروة إفلاسه المالي، هو عمر أبو النصر.

كان الخندق الغميق الذي هجره سهيل أدريس إلى الحي اللاتيني، ثم عاد إليه لكي يصدر من هناك شهريته القيّمة {الآداب}، مصدراً كبيراُ من مصادر {الإشعاع} الذي كان يفاخر به لبنان. وكان مثل نقطة مركزية يجمع أهل الأدب والفكر أو العاملين فيهما. ولم أنسَ مشهد ذلك الشيخ الدرزي الطيب الذي كان يمتلك مطبعة صغيرة في الطابق الثاني في أحد مباني المعرض الصغيرة الضيقة. وكان يعمل هو وولداه وقريب لي في إصدار الكتب، فلم تنفعهم جديتهم الأصليّة وعرق جباههم، ولا زاد في النفع طبعاً كسل قريبي العزيز، فهم كانوا يطبعون وهو كان يقرأ. وظل الأمر كذلك إلى أن عاد الشيخ الجليل إلى قريته وصار قريبي يقرأ في ضوء المصابيح في ساحة البرج.

لكن هذه ليست حكايتي مع الخندق الغميق في أي حال، حكايتي مع ذلك المشلول في رواية سهيل أدريس.

من الحي اللاتيني أو من مجموعة الخندق الغميق علقت في ذاكرتي قصة رجل وإمرأة يلتقيان في مقهى. هي إلى طاولة وهو إلى طاولة أخرى. رأته في اليوم الأول وفي اليوم الثاني وفي اليوم الثالث. لكنه ظل جالساً بكل وسامته لا يلتفت إلى دعواتها الصامتة. وأخيراً سقط هو أيضاً، تحت حبها وجمالها، لكنه ظل جالساً كالعادة. وعندما لم يعد في إمكانه الإحتمال هبّ واقفاً مرة واحدة. وسقطت الصاعقة من السقف على الإثنين. لقد كان شبيهاً بـ {تولوز لوتريك}!.

إعتقدت أن مثل هذه القصص تحدث في الروايات فقط. لكنني بعد أعوام سوف أواجه شيئاً في صعوبة الواقع وسهولة الرواية.

كان بعد ظهر ذات أحد شتائي، وبيروت تمطر وحدة لذيذة وهدوءاً ممتعاً ورنَّ جرس الهاتف آت من بعيد، فقمت إليه. وجاءني صوت عذب إنما قارس: هل أنت بمفردك؟.

قلت: أجل، لكن من أنتِ ؟

قالت: لا يهمك من أنا، لقد قررت الإتصال بك فقط، بعدما قرأت لك قطعة أعجبتني. لكن يخيّل إليّ إنك نقلتها عن الإسبانيّة! أجبت بأنني أجهل الإسبانيّة تماماً، وبالتالي لا يمكن لي أن أكون قد نقلت عنها.

قالت: هذا ليس مهماً أيضاً. لقد شعرت بشيء من الملل بعد هذا الظهر، ولم أجد من أتصل به، ففتشت عن هاتفك في الدليل، والآن بخاطرك!.

واستمهلتها. كنت وحيداً أنا أيضاً، وكنت أريد من أحادث أياً كان، وقد جاء هذا الصوت العذب كأنه هبط من قوس قزح. لكنها أغلقت السماعة ومضت.

أمضيت أسبوعاً كاملاً أبحث عن طريقة لأتصل بها، لكنني لم أكن أعرف عنها شيئاً. لا إسمها، لا عنوانها، لا شيء على الإطلاق. وبعد ظهر الأحد التالي إنتظرت في البيت، وكلما رنّ جرس الهاتف قمت إليه، لكن صوتها لم يأت. ومضى أسبوع آخر. وأعددت لبعد ظهر الأحد عدة البقاء في المنزل. ونحو السادسة إتصلت من جديد. وقالت لي بعذوبتها الحادة: إعترف بأنك تنتظر مكالمة مني. وإعترف أيضاً بأنك إنتظرت يوم الأحد الماضي.

إعترفت بكل إستسلام.

وصرت أنتظر، بعد ظهر كل أحد، صاحبة الصوت العذب. وكنت في كل مرة أتوسلها أن تعطيني إسمها، أو أن تسمح لي برؤيتها، تهددني بأنها ستقطع العلاقة الهاتفيّة إن أنا مضيت في الإصرار. فإما هذه السحابة الروحيّة كل أسبوع  وإما لا شيء.

كانت ذكية وماهرة وعذبة إلى درجة أنني فضّلت هذه العلاقة العبثيّة على اللاشيء. وشيئاً فشيئاً أخذت أكتشف أنها تجيد الفرنسيّة والإنكليزيّة والإيطاليّة والإسبانيّة. وأبلغتني أنها تعلمت هذه اللغات في أمهادها وهي بعد صغيرة، حيث تنقل والدها ديبلوماسيّاً. وكانت أحياناً تقرأ لي ما كتبت من الشعر، ونروح نغرق في حديث الفكر والشعر والتأمل، ولا تنتهي المكالمة إلا عندما تتعب سماعات الهاتف وخطوط التلفون في المساء.

وغابت ذات مرة أسبوعين، فغاب معها الفرح. وشعر كل من حولي أنني في أزمة غير عادية. لكنها ما لبثت أن إتصلت بي بعد أسبوع قائلة إنها كانت تمضي إجازة تزلج فوق الثلوج.

ثم غابت مرة أخرى، وقالت لي إنها ذهبت إلى مصر للمشاركة في مباراة للسباحة في الإسكندرية.

ومر أكثر من عام. وكنت أعرف أنني إذا عرفتها فسوف أفقدها. ولذلك كنت أكتفي من تلك العلاقة بالحوار الهاتفي. وكانت هي تمعن في تعذيبي فتقول لي مثلاً: لقد شاهدتك منذ يومين، وكنت ترتدي طقماً رمادياً.

وأحاول أن أتذكر من هنَّ الفتيات اللواتي رأيتهن ذلك النهار ؟ من هي ؟ يا إلهي من هي ؟ هل هي الشقراء الطويلة التي كانت على الرصيف الآخر ؟ هل كانت المرأة التي مرت في سيارة مسرعة ؟ هل كانت الفتاة على الشرفة ؟.

ثم يعود صوتها فيأتي بعد ظهر الأحد: لا تحاول ! قلت لك ألا تحاول، ثم ندخل في ممتع الحديث فإذا بسيدة الهاتف هذه تتدفق علماً وثقافة وعذوبة ... وذكريات عن ثلوج سويسرا وغابات كاليفورنيا ومرابع الطفولة في مدريد.

وذات يوم قررت أن أسافر. وترددت في قبول العمل الذي عرض عليّ لكي لا أخسر هاتف بعد ظهر الأحد. ولكن في النهاية كان لا بد أن أحسم أمري ورجوتها أن تسمح لي بأن أراها مرة واحدة قبل سفري. وقالت لي: {لا، إنها حيلة لكي تراني}. أقسمت بكل يمين. وأخيراً لانت بعض الشيء. وقلت لها: حسناً، أين نلتقي ؟.... كيف لي أن أعرفك ؟

فقالت: أنا أعرفك، وأنت ستعرفني فور أن تراني.

قلت: كيف ؟

قالت: سأكون مع رفيقة لي وستكون رفيقتي واقفة وأنا جالسة.

كان مساء بارداً من أمسيات بيروت ذلك المساء. وقد جلست على شرفة {الهورس شو} أترقب، وكأنني أشاهد إمرأة للمرة الأولى في حياتي. ثم وصلت فتاتان جميلتان، كانت الأولى واقفة والثانية ..... تجلس على كرسي ذي عجلات !

نهضت وقبلت يدها. وقالت لي بصوتها العذب: ألم أقل لك لا ضرورة لهذا اللقاء ؟

وسافرت، تاركاً بعد ظهر الأحد في العذوبة والحزن والمستحيل، وحكايات تلك المقعدة الحالمة عن التزلج في سويسرا والسباحة في الإسكندرية والدراسة في إسبانيا.

وخيِّل اليّ وأنا أودعها أنني قرأت شيئاً من هذا الحزن في الحي اللاتيني أو في الخندق الغميق. لم أعد أذكر تماماً.