عودة ... عصفور من الشرق
للكاتب والصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {المرافئ القديمة}
في إفتتاحية لمجلة المستقبل بتاريخ 10/2/1985
كانت باريس حلماً ... وتكاد تصبح كابوساً .
عندما كنار صغاراً، نسرق الوقت ونقتّر النقود كي نهرب إلى السينما، كنا نصاب بما يشبه التخدير كلما رأينا على الشاشة مشهداً، ولو لدقيقة واحدة، لباريس.
إذا أرقنا في الليل، ونحن نستعرض ما شاهدناه على الشاشة الكبيرة، كان أرقنا يطوف دائماً حول باريس.
وإذا نمنا من كثرة الأرق والتفكير بباريس، كنا نحلم .... بباريس.
ونضيف إلى ما رأينا في السينما من خيالنا أشياء وأشياء.
نرفض المقارنة بين باريس وبين أي عاصمة أخرى، فهي عروس المدن وغانية العواصم، وهي بالنسبة إلينا الغرب.
عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم، قرأناه، بل وحفظناه لكثرة ما قرأناه. وسبحنا معه في خيالنا، حتى أصبح كل من يشعر أنه والبطل توأمان، وأن الأمنية الكبرى البعيدة في حياته أن يكون ـ في يوم من الأيام ـ بطل العصفور القادم من الشرق.
محمد التابعي {عقّدنا} جميعاً بكتابه {بعض من عرفت}، ولكننا توقفنا أمام حكاياته، وحكايات مغامراته في باريس، وقضينا أيام صبانا الأول، نكره التابعي ونحقد عليه، لأنه كان .... هناك، هناك، في باريس، ونحن لا نراها إلا في السينما أو المجلات أو بعض بطاقات البريد .... التي يستلمها غيرنا، ونحسده عليها.
وعندما أطلّ علينا سهيل إدريس برواية {الحي اللاتيني}، وكنا بدأنا نحبو في دنيا الكتابة، توقفنا عن الكتابة {كتابة القصة} لأشهر طويلة، فمن الذي يستطيع كتابة قصة، بعد قصة إدرس عن باريس، وحيّها اللاتيني، وقصص الحي اللاتيني مع البطل القادم من الشرق أيضاً.
وإعتقدنا أننا إذا زرنا باريس، فقد تخفف هذه الزيارة من وهج الحلم، وأن واقع المدينة النائمة على ضفاف السين، سيرجع إلينا عقلنا الذي أخذته هذه العشيقة البعيدة، البعيدة.
وزرنا باريس ... لأسبوع في المرة الأولى، فإذا الحلم البعيد، يتحول إلى حب حقيقي، وإذا بالحنين إليها بعد الزيارة والعودة إلى الوطن، يصبح ألماً في القلب، وضيقاً في التنفس.
وكما كنا نسرق الوقت للذهاب على السينما أصبحنا نسرق الوقت للذهاب إلى باريس.
ونعود دائماً، وأبداً ... ولما نرتو. دائماً عطاشاً إليها ...
وإلى غموضها، وسحرها الذي لا ينتهي.
وتحترق بيروت، وتقذف بنا الأيام إلى ... باريس.
{مؤقتاً} في البدء.
أسبوع. شهر. شهران. ثلاثة ....
نقراء كل الصحف، وبكل اللغات، ونستمع إلى كلّ الإذاعات، وبكلً اللغات، ونشاهد التلفزيون ... باللغة الفرنسيّة فقط.
نتساقط أخبار بيروت.
نتسكع في المقاهي ... بإنتظار بيروت.
ننام، ونصحو ... وكأننا على موعد مع بيروت.
ويصبح {المؤقت} ... دائماً ...
نستأجر منزلاً، ثم مكتباً، ثم تصدر {المستقبل} من باريس.
وفجأة يسقط كل شيء.
ينطفئ الوهج. يموت الحب. تصبح باريس كابوساً.
....وتضمنا سهرة مجموعة من المهاجرين.
كل واحد يشكو خيبته و{كابوسه}.
رجل واحد، ظل جالساً لوحده بعيداً عنا وعن الشكوى ... وعن الحنين، وكان صوت شكواه الصادر من عينيه أعلى من أصواتنا جميعاً.
كان حزيناً ... إلى درجة البكاء.
ولم تننته السهرة إلا وقد لفّنا جميعاً في حزنه.
ولم تكن المرة الأولى التي أسهر معه ... أو يصدمني صمته وحزنه.
لكنني لم أسأل، ولا مرة واحدة، عن سر هذا الحزن.
إلا تلك الليلة، فقد سألت صديقاً آخر يجلس إلى جانبي.
وهمس في أذني، وكأنه يعترف : ألم تعرفه ... إنه بطل رواية سهيل إدريس {الحي اللاتيني}، لقد اضطرته الأيام إلى العودة إلى باريس للعمل فيها، بعد أن عرفها كتلميذ.
ومن يومها .... لم تفارقه الصدمة.