العقد الذهبي 

  للكاتب والصحفي  الأستاذ سمير عطا الله 

قرأت مفكرة وردية بستانية جنائنية لأدونيس من دمشق، او ما يسميها متنهدا، دم ش ق، مكتوبة برذاذ بردي واعماق الشاعر.

المدن يضعها الشعراء. يبنيها الكبار ويطرزها الشعراء. تخيل دمشق من دون نزار، وياسمينته وبحرته.

وها هو ادونيس يعود الى المدينة يجر خلفه رداء الشعر والفكر والتأمل وفروسية الكاتب الحر. وإذ يصل الى المتنبي ونصبه العملاق في رمزية الذاكرة، يقول ادونيس بتهذيبه التاريخي وصوته الدائم الخفض وابتسامته الدائمة التسامح، يقول {سيدنا وقائدنا المتنبي}.

سيده شاعر. وكان دانتي، اعظم شعراء ايطاليا، قد انحنى أمام ذكر ارسطو وقال: {سيد ذوي المعارف}.

كلما ارتفعت قامة ذوي العقول والعطاء ازداد انحناؤهم لذوي الأثر الخارق.

العامة في لبنان تقول {سيدنا} لرقيب الدرك. وتسمي الشرطي افندياً من ايام الاتراك لأنه يحرر المخالفة. هو، كبير المحدثين اليوم، سيده شاعر وقائده شاعر. سماهم ديغول، جميعا، الامراء. سماهم شرق فرنسا.

كنت اتمنى منذ سنوات، منذ سنوات، ان اكتب سيرة {العقد الذهبي} في بيروت، الستينات.

ليس يوم كان فيها سعيد عقل وامين نخلة وانسي الحاج، بل يوم جاء اليها اربعة من عز التربة الذهبية الشعرية: نزار وادونيس ومحمد الماغوط وبدر شاكر السياب. وبعدها جاءنا مقيمون رائعون مثل محمود درويش والفيتوري والبياتي وسرب طويل من طيور الهجرة الى الحرية. لكن السرب الأول كانوا الأوائل. جاءوا وغيروا. جاءوا وأسسوا مدرسة ما، ليس لها أعمدة ولا قاعات ولا مقاعد.

كانت مثل مدرسة افلاطون، ذرّاً جميلاً في الريح والناس تلحق الريح وتحفظه وتقلده.

ما زلت ارتجف شعرا كلما قرأت {حزن في ضوء القمر} تماما كما قرأت الماغوط في المرة الأولى وهذا السيل وتلك الرقة وامهات العبارة ولحن جميل بلا ايقاع.

ويوم ذهبت اتعرف الى نزار قباني في مكتبه في بيروت وجدته في مبنى قديم في سوق قديمة ما الى جانب تجار {مال القبان}.

وقلت له هل يعقل ان يخرج من هنا كل هذا العطر المغلف بالشعر. وكانت تلك بداية صداقة مع نزار، كان يثريها بابتسامته وحضوره الاميري النسائمي. وكان ذلك العملاق الذي لا يتكرر، لا يغار إلا على كلماته. ولا يشعر برهبة الا امام عطائه. وكنت اذا فاتني ان اتصل به يوم ظهور مقالته، يتصل هو قبيل نومه في العاشرة ضاحكا ملء شاعريته: {اشبك ما تلفنت؟ ما عجبك المقال؟ تلفن، بدي اعرف انام}. كان عقد بيروت الذهبي.

وفيه ايضا جاءت من دمشق قطة ماسية سوداء. وكنت من اوائل الذين تعرفوا الى غادة السمان التي التقيتها من قبل في الشام. وكانت بيروت، على صوت فيروز وايقاع المتوسط تجتذب اهل المواهب الكبرى. كما جاءنا ايضا الاجوفون الذين لم يكفوا عن شتمها الى الآن. وكنت رئيس تحرير {الاسبوع العربي} عندما جاء نزار ومعه مقاله الاسبوعي عن لبنان {سوف تقتلونه وتندمون}. وقلت له، نزار، بلاه احسن. سوف يعود عليك بالمشاكل.

ووضعه على مكتبي ومشى: {انا نزار قباني. مو انت}. كتب فيها اجمل ما كتب.

وكتب فيها محمود درويش اجمل ما كتب.

 وغنت الفلسطينية ماجدة الرومي {يا ست الدنيا يا بيروت}.

ولا اقرأ الاخبار الفنية كثيرا. لكنني قرأت ان زوج ماجدة السابق طردها من منزلهما وان الرئيس رفيق الحريري اهداها منزلا. اسمعي يا عزيزتي ماجدة. لقد كنا نخجل ان نقول لك ذلك وانت في منزله. لقد طال بقاء الجوهرة في ذلك المكان.