حين أمدّ يدي في الليل لأشعل مصباح الوسادة أشعر بالتأفف، لكنني لا ألبث أن أتذكر أن جدّي أمضى العمر هانئاً في ضوء القنديل والسراج ونجمة الصبح. وحين أحلم بسيارة اوتوماتيكية أتذكر أن جدّي كان يفيق مع الفجر فيغتسل ويشبك يديه خلف ظهره ومثل قصيدة الأخطل الصغير يجوب الربى ويقطع سهولا !
وكلما تضايقت من نوع الطائرة التي تعبر بي المحيط تذكرت أن جدّي {أقلّته} عبر المحيط باخرة صدئة مصهورة بالملح والرياح، وأنه حين سافر للمرة الأولى كان مثل {دون كيشوت} غير قادر على التمييز بين فيلق من الجيش وقطيع من الغنم.
وحين ألعن كرسي المائدة إذا اهتزت بي أتذكر أن جدّي كان يبسط أمامه شيئاً من لبن الماعز وصرّة صغيرة من الزيتون ورغيفاً رقّ بالصاج، ثم يتربع على الحصيرة، في صدر الدار وقد اتكأ إلى مسند من القش فيبسمل حين يشرع ويحمدل حين يشبع ويقوم بعدها إلى الحياة مشعاً بالرضى.
وعندما أتجنب الانتظار في طوابير الباصات والقطارات وأمام شبابيك السينما أتذكر أن جدّي كان ينتظر، من أسبوع إلى أسبوع، دوره، في ريّ الحقل من المياه المشاعة في صهاريج القرية.
لقد ولدت في العصر الحجري وذهبت إلى مدرسة صغيرة في ساحة صغيرة، تضاء بالكاز في أيام الشتاء وتتدفأ بالحطب وكروز الصنوبر اليابسة. ولم تأتنا الكهرباء إلا وقد بلغت السابعة عشرة من العمر، أما المياه فوصلت بيوتنا قبل ذلك بقليل، فكنَّا إذا أظلمت الدنيا عدنا إلى منازلنا مثل الأعشى الكبير ! ولولا مذياع عتيق كنّا نتحلق حوله، كما حول عَجِب، لما اختلفت السنون النديّة عن العصر الحجري كثيراً. لكن ها نحن على عتبة القرن الحادي والعشرين فما عدنا يدهشنا سفر السندباد ولا عدنا نقرأ على أطفالنا حكاية الزير.
ولست أدري إلى أي عصر أنتمي حقاً. إن لزمناً طويلاً بين جدّي الذي كان يشتري لنا أكياسً من البلور الملون، وإبني الذي طلب في عامه الرابع دمية آلية أين منها حكايات الشاطر حسن.
نصفنا هناك، في الأمس والشعر والحلم ونصفنا هنا، نطير من نيويورك إلى واشنطن إلى لندن والدنيا حولك أضواء بلا نور وشوارع مشّرعة بلا نسيم وفي الحقول أشجار بليدة متناسقة مطرزة عريضة الأوراق لا يتساقط منها الجوز مجاناً ولا يتدلى تفاحها على الطريق لكي يقطف من راقت له تلك الحمرة المعلقة {موشحة} مثل تراجيح الأندلس.
أبحث عن قبعة ترد عني بعض الشتاء فأرى أمامي معلقات منها ولا تعجبني واحدة، فأتذكر أن جدّي كان يكوي الظهيرة بقبعة من الفلين ويحتفظ بطربوشه الأحمر نظيفاً في أعلى مرتبة من مراتب الخزانة من أجل الأعياد والمناسبات.
أتضايق من النهوض إلى التلفزيون لأغير قناته فأتذكر أن جدّي كان يذهب إلى السينما مرتين في العام ويبتهج بقية السنة بما رأى. وأحاول أن أخفف من سمنتي فأتذكر أن جدّي عاش الحربين بكفاية واحدة وهناء واحد. وتضعف نفسي أمام الواجهات الزجاجيّة فأتذكر أن جدّي كان يمّر بها فلا تحار نفسه بين الضعف والقوة فانه كان نعمة من الاكتفاء.
لكن إلى أي عصر أنتمي حقاً وما الذي تغيّر في الدنيا وما الذي تغيّر بي :
لا يرجع الماضي ولا | يبقى من الماضينَ غابــر |
أيقنتُ أنـي ، لامَحَا | لةَ حيث صار القوم ، صائر |
ربما هي سنّة الكون. وقد قال لنا الإمام العظيم قبل أربعة عشر قرناً أن أولادكم ولدوا لزمان غير زمانكم !
فهكذا يصير عصر كامل بين الجد والحفيد، بين الأب والإبن، بل أحياناً بين النفس وذاتها، فلا يعقل إلا أن تقوم هوة نفسيّة بيننا وبين أنفسنا حين نقطع خلال أربعة عقود تلك المسيرة الشخصيّة بين السواقي الشاعرة في الجنوب وطعام الغداء في {الأمباير ستايت}.
وكان والدي يمازحني شاباً أنني أغفو والراديو إلى جانبي لكن هذا حفيده، طفلاً، تعطيه المضيفة رسوماً مربعة يركب منها صورة الطائرة التي نحن عليها فيكتشف أننا على طائرة ذات محركين لا أربعة !
وأتذكر حكايات بساط الريح وكم كانت دهشتي عظيمة يوم ركبت في أوائل الستينات طائرة ذات مراوح ويا شراعاً وراء دجلى تجري !
إننا لا تليق تماماً بالعصر. لا نليق بهذه المدن الطاحنة. نحن ورق مقوى رمينا في حقل من الفولاذ. فلاّحون وأطفالنا يلهون بالكومبيوتر، ورومانسيون من العصر الحجري نطاحش نهايات القرن في شوارع نيويورك، فنفجأ لا بالحديد والنكل والتنك بل قواعد الحياة وأعراف النهار ونظم الخُلق.
وكم أشعر أنني متمسك بسترة جدّي كما كنت أفعل حين يدعوني أحياناً إلى {الغداء} في باب إدريس، يومها كنت أحتمي بسترته من المدينة، من الإزدحام، من الجدّيد، من الترام المدهش، من أصوات الباعة، وكم تبدو باب إدريس هادئة جميلة اليوم وكم أشعر بحنين إلى سائقي السرفيس على درج الكابيتول، حين يرميني سائق التاكسي الأصفر على رصيف {فيفث افبنيو} كأنني صندوق من الكولا.
ثانكيو سير !