إلتهاب الجيوب  

 

للكاتب والصحفي سمير عطا الله من كتابه {مسافات في أوطان الآخرين}

ما كنا نعرفه بـ {الرشح} أو {البرد} يعرفه السكان الأصليون في هذه البلاد بالتهاب الجيوب. وكان السائد عندنا ان ثمة نوعاً واحداً من الجيوب يصاب بالإلتهاب أو الألتهام، لكن تبين لنا في بلاد الإنكليز ان جيوباً أخرى تصاب ويصير معها صوت المرء مثل صوت الماعز اجلكم الله.

ومن أعراض الجيوب .... الشخير ! ولذا فانه عندما نصحني الأطباء هنا بإجراء عملية جراحيّة للتخلص من داء الجيب {على وزن داء الجنب} قيل لي إن من فوائدها التخلص من الشخير وبالتالي تطمين العائلة إلى أن في إمكانها بعد اليوم النوم في الليل مثل سائر العباد.

ولكن للأسف فقد ذهبت الجيوب وبقيت السمفونيّة تقلق أهل الدار وجيراني في الطائرات والقطارات والفنادق الرقيقة الجدران، وكل مكان أستسلم فيه للنوم.

وعندما تعرفون أن الداعي لكم بطول العمر ينام في أي مكان، حتى وراء المكتب، تعرفون كم هو عدد المعذبين في الأرض ... بالإذن طبعاً من طه حسين وذكراه المئويّة. وقد حدث قبل أسبوعين أن اضطررت إلى السفر إلى الريف البريطاني برفقة بعض الأحباء. وحين وصلنا إلى الفندق القديم اكتشفت أمرين : الأول أن الجدران رقيقة، والثاني أنني مصاب بالتهاب رهيب في الجيوب المذكورة .... آنفاً {من أنف}.

وأشفقت سلفاً على جيراني في الغرفة المجاورة. وقررت تلك الليلة أن أطيل السهر ما استطعت حتى يكون أهل الغرفة التالية قد ناموا بحيث لا تبدأ السمفونيّة وهم بعد سهارى فيغلبهم الكرى ويتعذر عليهم النوم أو يستحيل !.

وأنتصف الليل وأنا أقرأ. وحين شعرت أن الجيران قد ناموا وإن الريف البريطاني كله قد هجع ولم يبق في الخارج إلا تلوي الشجر والرياح، نمت متعباً، لكن يبدو أنني ما أن نمت حتى استفاقت الجيوب مرة واحدة كما تستفيق الثكنات العسكريّة، أما كيف عرفت ما حدث وأنا نائم ... فقد قرأت ذلك في وجه جاري في اليوم التالي. لقد بدا المسكين متعباً مجهداً مسهداً كأن به ضعفاً وألقى علي نظرة عتاب عميقة ومشى.

وتخيلت ماذا حدث الليلة البارجة وذهبت إلى غرفتي وحزمت حقيبتي ثم نظرت إلى صالة الإستقبال لكي أرجو الموظف أن ينقلني إلى غرفة أخرى. وأشترطت أن تكون الغرفة في الجناح الحديث من الفندق وأن تكون في آخر الجناح وأن تكون في آخر الفندق وأن تكون، إذا أمكن، بين غرفتين خاليتين ! وقبل الموظف بكل الشروط إلا الغرف الخوالي فهذه صعبة والفندق مليء . وتنفست بارتياح وأنا أدخل الغرفة الجديدة. وطرقت جدرانها فاحصاً فوجدتها مسلحة ومبطنة ومضادة للشخير وكل أنواع الضجيج الأخرى كالمغاسل والحمامات وغيرها.

وبعد ظهر ذلك اليوم مررت في البهو بجاري السابق فهززت كتفي تعالياً كأنني أقول له عليك بالنوم هذه الليلة ما تشاء فقد حملت شخيري وذهبت.

لكن الجار السابق لم ينم تلك الليلة، فقد أختار المسكين أن يكون جاراً لاحقاً أيضاً. إذ ما أن طلع عليه الفجر ذلك الصباح حتى كان يذهب إلى موظف الاستقبال ويقول له بشيء من التوسّل أنه يفضل الإنتقال إلى غرفة أخرى ويفضل أن تكون في الجناح الحديث من الفندق وأن تكون في آخر الجناح وفي آخر الفندق وإذا أمكن، بين غرفتين خاليتين.

وأعطاه الموظف غرفة مستكملة الشروط إلا حكاية الغرف الخوالي، وبين الغرفتين المجاورتين للرجل المسكين كانت هناك غرفة ملأها بي وبشخيري وبالتهاب الجيوب وقد أضيف إليها تلك الليلة سقوط اللوزتين وصعود الطبقات الصوتيّة. وعندما أضيف أوى الجار المسكين إلى فراشه مطمئناً إلى أنه ترك الشخير في الطرف الآخر من الفندق إنما كان يحلم.... قبل أن ينام. وبما أنني كنت أجهل بالطبع أن الرجل قد أختار التجاور مجدداً، وأن صوتي يمكن أن يخرق الأسمنت المسلح، فقد استسلمت للنوم باكراً في سريري ... فيما استفاقت كل التخوت الموسيقيّة في العالم وراحت تصر صريرها.

... وصباح اليوم التالي خرجت من الغرفة ففوجئت بجاري يخرج من غرفته أيضاً. وكان يبدو أشد نحولاً وأكثر أرقاً وبالطبع أكثر غضباً. ورأيته يتجه نحو موظف الإستقبال فلحقت به، وقلت له بكل جديّة وصدق، إذا كنت تنوي أن تغير غرفتك فقل لي أين ستكون لكي أظل بعيداً عنك. وضحك الرجل طويلاً، وضحكت. وتقدمنا معاً من الموظف يطلب كل منا غرفة اخرى.

وكما يحدث في المسرحيات الهزليّة قال الموظف أنه ليست لديه غرف خالية وأن علينا الانتظار إلى ما بعد الظهر. لكنه بعد قليل طلبني ليبلغني أنه عثر على غرفة لي. ويبدو أنه ترك عمله عند الظهر من دون أن يبّلغ زميله المناوب برغبة جاري السابق اللاحق، فما أن خلت غرفة أخرى حتى أعطيت لصاحب الحظ الكبير والجار المسكين.

وفي الليل آوى كل منا إلى فراشه من دون أن يعرف بما حدث.وصباح اليوم التالي صعقت عندما رأيته يخرج من غرفة مجاورة. لكن هذه المرة كان يرتدي ثيابه كاملة ويحمل حقيبته. وقبل أن أسأله أي شيء قال ضاحكاً باكياً : لقد عثرت على غرفة في فندق آخر، ثم أكمل : وطبعاً في مدينة أخرى !.