تحديات رفيق الحريري اليوم أصعب من تحديات ما بعد الحرب

  تحديات رفيق الحريري اليوم أصعب من تحديات ما بعد الحرب

  للكاتب والصحفي  الأستاذ سمير عطا الله 

كل سر في لبنان ذائع. كل همس شائع. وفي تأليف الحكومات أو تشكيلها تعرف الأسماء قبل إعلانها وتتداول الحقائب قبل توزيعها. ولم تكن حكومة رفيق الحريري الجديدة من شواذ القاعدة. فقبل أن تعلن كانت الصحف تناقشها وكان النواب والسياسيون ينتقدونها. وزاد في حدة الأشياء هذه المرة الوضع الاقتصادي شديد التأزم والوضع العربي المتفجر، وقد بدت التشكيلة المطروحة في التداول دون مستوى الحالتين. وقال نواب «التكتل الطرابلسي» في بيان لهم إن شخصية الرئيس الحريري تعبر عن وحدة اللبنانيين، في حين أن التشكيلة المقترحة تفرق بينهم. وشعر كثيرون بأنه لم يعد في إمكان لبنان أن يدفع أي ثمن إضافي للخلاف والتنازع بعد ذلك الثمن المريع الذي دفعه، أي الحرب.

وفي نهاية تلك الحرب دخل العمل السياسي في لبنان مهاجر يدعى رفيق الحريري. وظن اللبنانيون ان رفيق الحريري جاء من عالم المال والمقاولات، لكن المال والمقاولات والاشغال حول العالم، كانت العمل «الاضافي» او «الفرعي» في حياة استاذ المدرسة السابق، اذ منذ اواخر السبعينات والحريري يستخدم المال في بناء مهنة سياسية تندفع بلا حساب. ومن خلال حجمه المالي اخذ يؤدي ادواراً سياسية هي الاخرى ذات احجام ومفاعيل واسعة. ودخل الحريري لبنان الحرب من باب الوساطة والسلام والتعمير. وبالاضافة الى ما صرف في اسعاف لبنان واللبنانيين، اغدق على المشتغلين في السياسة، من جميع الفئات والطبقات. والسياسيون في لبنان لا يجدون ضيراً في قبول المكرمات. والمثل العامي يصف البرامكة بأنهم «كَرْمٌ على درب» يقطف السابلة من عنبه من دون استئذان.

بنى الرئيس الحريري مدخله الى العمل السياسي على طريقة بناء الاهرام حجراً حجراً وصعداً صعداً. ورغم ما صرف من مال، فقد كان يعمل مثل سياسي لا يملك شيئاً. ومع انه اول رجل يبدأ حياته السياسية مباشرة في رئاسة الوزراء، فقد راح يعمل، وهو في رئاسة الحكومة، من اجل مقعد نيابي. وكان يريد بذلك القول ان مروره في السياسة اللبنانية ليس مؤقتاً، وان هدفه الحقيقي ليس رئاسة الحكومة او المقعد النيابي وانما كرسي الزعامة في لبنان. ومن اجل هذه الزعامة عمل على نحو مثير ومتعب ومرهق احياناً. وعرف ان للزعامة الدائمة اركاناً وزوايا، فأخذ يبنيها بدأب عجيب وطاقة عجيبة وصبر غريب على التفاصيل.

كان ذلك يقتضي ان يتحمل الحريري ما لا حاجة به لأن يتحمل: وزراء في حكومته يتناقضون تماماً مع سياسته ورؤيته ومزاجه وطباعه. ومعارضون يبتزون فيه الرجل الثري والسياسي الطموح. ومعترضون يقفون في طريق المشاريع التي يطرحها. ومتطاولون يخاطبونه بتعابير لم يعتد عليها في اي مرحلة من حياته. ومتهمون ومحاسبون ومسائلون، وجلسات مناقشة مملة او عقيمة او اصيلة في مجلس النواب. وافخاخ واشراك ومطبات.

وقرر ان يتحمل. وكان يتصرف في الاعمار وفي السياسة الداخلية وفي السياسة الخارجية وكأن لبنان دولة في حجم بريطانيا. وكان ذلك يثير البعض ويسر البعض الآخر. فقد طغى بحجمه وبأسلوبه على كل شيء. ونقل وزارة الخارجية من مقرها في قصر بسترس الى طائرته الخاصة واخذ يتنقل بها من مكان الى مكان. من لندن الى طهران. ومن طهران الى الرباط. ودائماً مروراً بقصر الاليزيه وجاك شيراك، الذي يخالف كل بروتوكول رئاسي لينزل درج القصر مودعاً رئيس وزراء لبنان. وبعد باريس واشنطن. وحتى بعد استقالته كان وكيل وزارة الخارجية الاميركية هو الذي يأتي لزيارة رفيق الحريري في جناحه. او في اجنحته، فهو لا يسافر في طائرة واحدة ولا يقيم في جناح واحد. وعندما سافر الى موسكو في زيارة رسمية اغرى موكبه رجال الشرطة انفسهم في المدينة بقطع الطريق على صحبه. ولا بدَّ لمن يرافق الحريري ان يكون اوزة ذهبية.

لم تعرف السياسة اللبنانية رجلاً مثل رفيق الحريري. ليس في ماله، بل في عناده ودأبه وعمله ومحاربته وانصرافه المذهل الى العمل من اجل رئاسة الوزراء، وكأنها اصبحت ارثاً شخصياً مذ تولاها. ومنذ ان تركها قبل حوالى العامين وهو يعمل، على نحو عجيب ومذهل ومثير وقاس احياناً، من اجل التأكيد أنها غير خليقة لسواه. ولم تكتف ماكينته السياسية والاجتماعية والاعلامية، ذات الحجم المخيف، بمحاربة خلفه، الدكتور سليم الحص، بل سعت الى بسط زعامة سيدها في بيروت وبسط صورته في كل لبنان. ولم توفر في ذلك شيئاً. ولم تترك متنفساً لأحد من اصحاب الزعامات التقليدية. وبدا جميع زعماء السنة فجأة ضعفاء امام رجل لم يكن له اي وجود سياسي قبل عشر سنوات. ففي الشمال قلمت زعامة الرئيس عمر كرامي. وفي بيروت خسر الرئيس سليم الحص مقعده امام سيدة شابة وضعها الحريري على لائحته الانتخابية ثم في حكومته. وخسر تمام صائب سلام ارثا عمره مائة عام. وغابت عن الساحة السياسية دفعة واحدة العائلات السنية التي ارتبطت اسماؤها باسم بيروت. وفاز فقط اولئك الذين ركبوا قطار الحريري، سُنة وشيعة ومسيحيين.

طبعاً أدى المال دوراً رئيسياً او دوراً كاسحاً. فالآلة الانتخابية وحدها ضمت 5 آلاف شخص، لكن الذي لعب الدور الاول والأخير، كان اصرار رفيق الحريري واقتحامه وصلابته، وقراره بأنه يجب ان يربح المعركة من دون ان يتوقف لحظة واحدة امام الخسائر او التكاليف او حتى مشاعر الصداقة التي كانت تربطه ببعض الذين ألحقت بهم الخسارة، فالمعارك السياسية لها نتيجة واحدة: إما ربح وإما خسارة.

لم يعتد رفيق الحريري على ان يخسر. الانتصار الانتخابي في بيروت ولبنان حتم عودته الى السراي الكبير الذي بناه علامة فارقة في معالم بيروت القديمة، ذات الوجه الآخاذ، ولكن كما جاء رفيق الحريري للمرة الأولى بعد اثار الحرب يجيء الآن ولبنان، كما قلنا، في اصعب واحلك سنواته الاقتصادية. وفي المرة الماضية احدث مجيء الحريري ردة فعل انفراجية لا حدود لآمالها، لكن هذه المرة تغطي الكآبة الاقتصادية كل الاسارير ويسيطر على الناس خوف شديد من المجهول الذي طالما لازم هذا البلد العائم في تضاربات الداخل والخارج.

كان جميع اللبنانيين يتوقعون عودة رفيق الحريري، لكنهم كانوا يتوقعون عودته على رأس حكومة انقاذ حقيقية لا يكون هو قطبها الوحيد وصاعقها السياسي والاقتصادي، فالبلد في حاجة، خصوصاً الساعة، الى فريق انقاذ سياسي وطني قادر على اتخاذ القرارات الصعبة لمواجهة اي احتمال او اي طارئ، خصوصاً في الشأن الاقتصادي وعمليات التخصيص الآتية، وخصوصاً في مواجهة التحولات والتطورات الاقليمية. فالوضع الحالي لم يعد وضعاً يمكن ان يواجهه رجل مهما كان حجمه السياسي او الاقتصادي. ومن دون تحقيق توافق وطني حول مواجهة القرارات الصعبة، لن يستطع رفيق الحريري منفرداً ان يحقق كل ما يتوقع اللبنانيون ان يحقق.