جواز الإنتظار 

للكاتب والصحفي سمير عطا الله من كتابه { مسافات في أوطان الآخرين}

كان هناك زمنٌ، كان فيه جوازُ السفر اللبناني/ مثل أيّ جواز سفرٍ آخر في العالم، أو أفضل أحياناً. وكان جوازاً عتيقاً، صلباً، كرتونياً، غامق اللون، ومع ذلك، فقد كان يكتبُ عليه بكلِّ بساطةٍ وطيبة : {إن رئيس الجمهوريّة يوصي بحاملِه جميع دول العالم وأرجاء الكون} !.

وشيئاً فشيئاً تقدّم لبنان، ولم يعدْ رئيس الجمهوريّة هو الذي يمنحُ الجواز كما في الإِمارات الخيالية والإمبراطوريات السابقة. وتطورَ الجواز كذلك، فلم يعدْ في حجمِ الجيب الكبيرة التي غيرها العصر بل أصبحَ في حجمِ الجيب الصغيرة المعاصرة. ولم يعدْ كرتونياً مثل الدفاتر العتيقة، بل أصبح بلاستيكيّاً له رائحة المصانع. ولا عاد أزرق غامقاً بلون السماء الصافية، بل أصبحَ أزرق فاتحاً بلون علمِ الأُمم المتحدة.

لكن يبدو أنّ التطور الذي لحق بالجواز لم يشملْ حامله أيضاً، فقد أخذنا نلاحظ في مطاراتِ الأرض وكل الموانئ البريّة والبحريّة الأُخرى، إِنّ نفوراً من الجواز الجديد، وثمة حذراً من حامله.

وأخذنا نُعامل بعض الأحيان كما يُعامل حاملو الأوبئة الخفيّة. وأذكر أنني في العام 1975 وصلتُ إلى إحدى الحدود الأوروبيّة، وسلمتُ جوازي للمأمور العزيز، فأمسكَ هذا به كأنّه ممسكٌ بقاتلِ آبراهام لنكولن، وراح دون أن يلتفتَ إليَّ، يعدو نحو رئيسه وهو يهتفُ بصوتٍ عالٍ سمعه كل ركاب القطار : {معي جواز لبناني، معي جواز لبناني}. وركض رئيسه أيضاً نحوه لكي يلتقيا في منتصف الرصيف ومن أحل عدم إضاعةِ الوقت. وأخذ يقلبُ الجواز بفرجٍ شبيهٍ بفرحِ السعادين، ثم أخذ لونُه يتغيّر قليلاً قليلاً، لقد أصيب بخيبة، لا جواز مزوّر، ولا صاحبه مطلوب، وأعادَه إليَّ وكأن في نيَّته أن يشتمّني.

ومرة ثانية وقفتُ وسط طابورٍ من الناس في أحد بلدان العالم الثالث، فلما وصل الدورُ إليَّ، رفع المأمور إِصبعه وأشار إليَّ بأن أعود إلى الوراء. وبحثتُ، كما يقول أهل طرابلس، عن {كلمتين نضاف} أقولهما له لم أجدْ ... لأنّ المكانَ كان قذراً.

وكنت أسافر من لندن إلى باريس بالقطار فأرى الناس تتدافعُ أمامي عبر بوابةِ الجمرك فلما يصلُ الدور إليَّ، تتوقف الحركة تماماً ويغرقُ الشرطي في عمليةِ تأملٍ للجواز مثل حكماء الهند ـ أي حوالي ساعة من الصمت ـ يقلبُ بعدها شفتيه ثم يسمحُ لي بالدخول.

وليس ضرورياً أن يحدث ذلك دائماً، ففي أحيانٍ كثيرةٍ ينظر الشرطي إلى الجواز وإلى صاحبه بالكثير من الشفقة يومئ إليه بالمرور وكأنّه يقول له : صحيحٌ أنني سمعتُ أخبار تلفزيون أمس ومع ذلك فإنني أُغامر على مسؤوليتي الشخصيّة وأمنحُكَ حق الدخول إلى هذا البلد الهادئ ....

في البداية كانت المأساة في المطارات وجميع الموانئ البريّة البحريّة الأُخرى، أما الآن فقد أَصبحت في الخطوط الأماميّة بلغة لبنان، أي في القنصليات. وهذه تنقسمُ إلى قسمين : قسمٌ يعطي الفيزا بعد شهر، وقسمُ يعطيها بعد دهر. وفي السابق كانت القنصليات تأخذ بعينِ الاعتبار توصيةً ما، أما الآن فالأفضلُ أن تذهبَ على رسلك لكي لا تثير الاشتباه بأنّك مسافرٌ لتقيمَ لا لمجرد الزيارة. وقد ذهبت ذات مرّة إلى إحدى القنصليات في مدينة كبرى ومعي توصية من القنصل اللبناني هناك، فكان أن حصلتُ على تأشيرةٍ مدّتها تسعة أَيام، لماذا تسعة لا عشرة ولا سبعة ؟! لا أدري.

ويبدو أنّه كلما تطورنا في لبنان كلما تطوّرت النظرة إلينا في الخارج. وخصوصاً في القنصليات، وقد ذهبتُ منذ فترة إلى إحدى هذه القنصليات بعدما طلب إليَّ الحضور بنفسي، وصلتُ القاعة الكبرى التي تشبه قاعة {المحاكمة} غند فرانز كافكا، في الساعة الثانية عشرة. وكان هناك أُناسٌ من جميع الجنسيات. هنودٌ وسودٌ وبيضٌ وفيالقٌ من رجال {السيخ} بشعورِهم الطويلة وفساتيِنهم القصيرة. وكانت هناك نسوةٌ مع أَطفالهن. وقالت جارتي في قاعةِ الإنتظار، أنّها من زامبيا وأنّ رفيقتَها في الطرف الآخر من أوغندا.

ثم أخذت القاعة تفرُغ. وكان الذين جاؤوا قبلي والذين جاؤوا بعدي يحصلون على تأشيراتِهم ويذهبون. وراحت القاعة تفرُغ. وفي الثالثة نوديَ على الرقم الذي أحمله فتوجّهت إلى نافذةِ الرجلِ العظيم {هنيبعل} التأشيرات. وطرح علَيَّ بضعةَ أَسئلة واقعيّة رددتُ عليها بكلِّ تهذيب. ثم أمرني بأن أعودَ إِلى القاعةِ ثم أَنتظر.

وعدتُ وأنتظرتُ . وأنتظرتُ. وعندما دقّت الساعةُ الخامسة كانت القاعةُ قد فرغت تماماً من كلِّ الجنسيات. وبقيتْ الجنسية اللبنانيّة في جناح الإنتظار. وتقدتُ من النافذةِ أسألُ عن الجواز، فقيل لي : إِذهبْ وأنتظر.

وعدتُ وأنتظرتُ. ودخل عمالُ القمامة ينظفون ما تساقط من طلاب السفر وخشيتُ أن أنسى ويغلقُ علَيَّ في قاعةِ الإنتظار، فقمتُ إِلى الشباك من جديد وسألتُ موظفاً لم يكنْ قد رآني من قبل وبالتالي لم يكنْ قد أشتبه بأنني قد أرغب بالإقامةِ في بلده، فتطلّع هذا بدوره إلى زميلته وقال بكلَّ براءةٍ : ماذا حدث ؟ أين جوازُ السيَّد ؟

وقالت زميلته من شفّتها السفلى : لا. لا لشيء. معه جواز سفر لبناني !

وتراجع الرجل إلى الوراء كأنّه في حالة أعتذار ... من زميلته طبعاً، ثم تطلّع إليَّ وقال لا بد من الإنتظار. كانت السادسة إلاّ الربع عندما أعطيت الجواز الأزرق الذي كان ذات يومٍ جواز مرور، فإذا به جواز أنتظار في كل أجنحةِ الإنتظار في العالم.