حتى العتم

  للكاتب والصحفي  الأستاذ سمير عطا الله                 

كانت ام كلثوم تغني لكل العرب. وكان محمد عبد الوهاب يلحن لكل العرب. وكان الكردي احمد شوقي امير شعراء العرب. والكردي قاسم امين كان صدر النهضة العربية. واللبناني امين الريحاني كان منبر الوحدة العربية والتونسي ابو القاسم الشابي كان شعار العرب.

واللبناني فوزي القاوقجي كان شيخ المجاهدين في فلسطين. واللبناني فارس الخوري كان رئيس وزراء سوريا. والجامعة الاميركية في بيروت كانت مدرسة القومية العربية.

واللبنانيون كانوا وزراء في العراق والاردن. والملك عبد العزيز كان محاطاً بأربعة من اهم المستشارين: سوري وبحريني ولبناني ومصري.

وعميد الادب العربي كان مصرياً.

وفي اوائل القرن الماضي كان اثنان من اعضاء مجلس الشيوخ في مصر، من لبنان.

وكانت القوى الوطنية، وخصوصاً الفلسطينية، تتخذ من القاهرة او بيروت موطناً اولاً لا ثانياً.

وكان الحبيب بورقيبة المنفي يجد في عواصم العرب دياره وامتداد داره. وكان تلامذة المدارس البسطاء يتجاوزون وجبة طعام في اليوم لكي يساهموا في المجهود الحربي الجزائري. وكانت بنزرت اقرب الينا في بيروت منها الى تونس.

وكان اسم عمر المختار محاطاً بالوقار والاحترام والتقدير في اي بلد عربي، مثل ليبيا او اكثر. وكان الجار يحترم، اولا، حرمة الجوار.

وكان كل حاكم يبحث عن وسائل تحسين احوال شعبه قبل ان يبحث كيف سيحكم جيرانه او كيف سيقهرهم.

وكان الخطاب السياسي العربي من الارقى في العالم، بما فيه اوروبا، وكانت النوايا حسنة والرؤيا حسنة والناس في اكتفاء او قناعة.

وكان الهم الوطني والقومي هو التقدم والرقي والخروج من عصر الظلم والظلام الاستعماري. وكانت ثقافة الامة وقادتها هي ثقافة الحياة: كيف نعيش في نعمة الله وكيف نترقى وكيف نصنع المستقبل للاجيال المقبلة.

ولم يكن مهماً ان تكون العائلة كبيرة وجائعة ومتخلفة ولا امل لها بالعلم او الكفاية، بل ان تكون سوية وكفية وخليقة بالنظم الانسانية ومفاهيم الحياة. وكانت البلدان الخارجة من النير والاستعباد والاستبداد تتطلع صوب منارات العلم والفكر والترقي.

ولم تكن معظم العائلات تملك ثمن القوت لكنها كانت تنام على الطوى لكي ترسل اولادها الى مدرسة ثانوية في البحرين او الى جامعة في مصر او بيروت او بغداد او دمشق.

وكان لكل حدث في بلاد المغرب وقع حتمي في بلاد المشرق وصدى في النفس العربي في كل مكان.كانت تلك مرحلة الحياة والامل والحقيقة. ومرحلة التكاتف عبر الحدود والسدود.

وفي الاعياد كانت الناس تذهب لتعانق بعضها لا لتفجر اصحاب البيت. ولم تكن القومية خطاباً فتاكاً بل مشاعر دافقة وحقيقية. ولم تكن الدعوة دعوة الى الموت بل الى الفلاح.

ولم تكن الحرية دوساً على رقاب الآخرين بل انشودة ونداء. ولم تكن المقاومة في قتل المواطنين واغتصاب عائلاتهم وتجويعهم بل في دحر الاحتلال ودفع الاستعمار. ولم يكن الهاجس خوفاً على الوحدة الوطنية بل حلماً بالوحدة القومية.

ولم تكن المعارضة كلاباً شاردة بل سياسيين في انتظار دور في الحكومة. ولم تكن الديمقراطية درساً في خراطيم الدبابات الاميركية بل في مدينة الفارابي الفاضلة. ولم يكن الخيار بين جزمة صدام حسين وحذاء مستر بريمر الكاوتشوك، بل بين الحرية والحرية الاكبر منها.

ولم يكن بين الفقر والجوع بل بين الكفاية البسيطة واحلام الفوز والسعي والانجاز. ولم يكن شيء كما هو الآن. حتى العتم كان اخف ظلمة.