للكاتب والصحفي الأستاذ سمير عطا الله
يعيش الزميل سمير صنبر في نيويورك منذ حوالي اربعين عاماً امضى معظمها في الامم المتحدة قبل ان يتقاعد بمرتبة امين عام مساعد.
وقد ذهب الى التقاعد بعد قليل من خروج الدكتور بطرس غالي من الامانة العامة. وتحدثت الى الرجلين، في مدن متباعدة واوقات متباعدة عن الحياة في نيويورك و{متاعبها}.
وقد طرحت السؤال وفي ذهني ان نيويورك مدينة طاحنة، سريعة الايقاع، خالية من المشاعر، وفظة احياناً. لكن يبدو ان ثمة هموماً ابعد واعمق من ذلك بكثير.مثلاً؟ مثلاً، سيدي، اليكم هذه القصة. لقد هاجر سمير صنبر، وفي ذاكرته اشياء قليلة من طيبات بيروت، اهمها بلا منازع رائحة الخبز الطازج وهو يخرج ساخناً من الفرن. ويأتي في المرتبة الثانية، ولكن ببعيد جداً، الفول المدمس، عشق اهل مصر بعد الطعمية، وعشق النوبيين قبلها. واعطي صنبر منصباً رفيعاً في الامم المتحدة ومكتباً في اعلى دورها لكنه حرم اللذتين: الرغيف الساخن والفول مدمساً مبللاً بالزيت مغطى بالنعناع مرفقاً بالبصل المفقوش باليد لزوم التقاليد.
كان هذا في العقدين الاولين من حياة الزميل في مدينة الناطحات الخالية من المناقيش والرغيف الساخن والفول. ثم انتقل الرجل الى مبنى مواجه للامم المتحدة. وفيما هو عائد الى شقته ذات مساء ماذا يصادف؟ ان جاره هو الامين العام؟ لا. ان الرجل الداخل امامه هو رئيس اميركا؟ ايضاً لا. ان احداً قد اضاع شيكاً مصرفياً بمليون دولار؟ ايضاً لا. لقد تناهت الى انفه الذائب حنيناً الى افران رأس بيروت، رائحة الخبز الخارج للتو من الفرن. وبدل ان يكمل طريقه الى بيته، رجع فوراً وتوجه الى مصدر الرائحة، فوجد ان في المبنى المجاور فرناً آلياً تصدر منه الارغفة بالآلاف. وتقدم من المشرف على التعبئة وقال له انه في حاجة الى رغيف او كيلو من الخبز. وردَّ الرجل بأن الارغفة تعلب آلياً في صناديق كبرى للتصدير الفوري ولا مجال لرغيف او كيلو واحد. وتراخى ريق الزميل العزيز وتعثر بلعابه وهو يستخدم جميع الوسائل. واستحلف المشرف بحق الجوار. فرفض. ورأى انه اسمر البشرة فحدثه عما يقوم به ضد التمييز العنصري. فاعتذر.ورأى انه لا بد من خطة طويلة المدى. فأصبح كلما كان عائداً في ساعة متأخرة يمر بالمشرف ويسلم عليه ويتشمم رائحة الخبز من دون ان يطلب شيئاً. ثم سأله عن اسم ابنه البكر فقال {بوب}. فروى له سمير ان العرب ينسبون الرجال تحبباً الى ابكارهم. واخذ يناديه {أبو بوب}. واطمأن الرجل الى نوايا مساعد الامين العام.
ولما ادرك الامين المساعد ان المسألة استوت، عاد ذات مساء وألقى التحية على {أبو بوب} وسأله كالعادة عن بقية العائلة والجذور الافريقية للأهل وحدثه عن الصلات العربية الافريقية وروى له حكاية عنترة، ثم قال له: {لي طلب صغير منك يا ابا بوب}. فقال الرجل، {آمر}. فقال: {اريد ان تشيح بنظرك قليلاً لكي استطيع ان اسرق رغيفاً واحداً. فقد اعددت له اللبنة والبصل والنعناع ولم يبق سوى حق الصداقة بيننا}. فحصل.
بعد خروج الدكتور بطرس غالي من الامانة العامة، كنت التقيه احياناً في باريس واحياناً خلال زياراته الى بيروت. وفي احيان اخرى كان يتصل هاتفياً في مكالمة، يملأها من ظرفه واحياناً من علمه. وجاء ذات مرة الى بيروت فذهبت الى الفندق اسلم عليه. وقلت له، اعرف تماماً احكام وقتك فلا شيء سوى السلام. وخطر لي ان اسأله ما هو الشيء الذي افتقده اكثر من اي امر آخر خلال وجوده في نيويورك. وتطلع اليّ بكل جدية ووضع يده على كتفي وقال: الملوخية!