داخل المكان
داخل المكان
للكاتب والصحفي الأستاذ سمير عطا الله
اختار ادوارد سعيد ان يدفن في لبنان. وسوف ينقل ترابه الى تراب الصنوبر في برمانا، مرقده الاخير.
ولن نعرف قبل ان تفتح وصية الاستاذ العملاق، لماذا لبنان، لماذا ليس فلسطين مهد الولادة وهاجس الحياة.
ولماذا ليس مصر، مرتع الصبا وهوى الفكر.
ولماذا ليس اميركا، التي شهرته واطلقته وجعلته اشهر حامل قلم عربي بعد جبران خليل جبران.
في عقوده السبعة كانت الاقامة في لبنان اقصر الاقامات.
ولكن فيه ايضاً شيئاً كثيراً من عالمه: عائلته واصدقاؤه والناس التي خرجت اليه يوم جاء الى الجامعة الاميركية قبل عام، خرجت اليه تقف على السطوح وعلى الابواب وعلى الجدران وعلى الشجر، لكي تصغي اليه وتصفق له وتدلل عامه الاخير في ديار المنفى.
تجيد بيروت صناعة حرفية تطريزية لذيذة، اسمها الوطن لها قدرة خفية خارقة على طرد مشاعر الغربة من حولك.
من دخل اليها فهو مواطن. ولذلك غنّيت في القصائد ونثرت في النثر.
لذلك غناها نزار قباني ومحمود درويش وتفيأها السيّاب والماغوط. وكان ادونيس جاري وكانت الناس تشعر بعفوية انه احق منا بالمدينة، من البقال الى سائق التاكسي.
معظم الاسماء اللامعة جاءت الى بيروت من الخارج، ورصّعتها وزادت في بريقها، ومنحتها هوية المدينة الأم والفيء العاشق. وبعض الاقامات كانت عابرة، بسبب المرور العربي الكثيف في الجامعة الاميركية، لكن الاسماء الكبرى التي خرجت من حرمها الجميل، انتشرت في كل العالم العربي، وتصدّرت الصدارات في الدور والادارات والنجاحات.
كان في إمكان اي رجل ان يأتي ويقيم ويستوطن.
كان نبيل خوري يروي كيف استفظع سعيد عقل انه لا يحمل الجنسية اللبنانية، فغضب وأخذه من يده وذهبا معاً الى وزارة الداخلية وعاد نبيل بعد ساعتين وهو لبناني من مواليد رأس بيروت. في نفس السنة التي ولد فيها في بيت لحم. وفي نفس العام.
وبعد ذلك بقليل اصبح مدير البرامج في الاذاعة اللبنانية التي تدين بنهضتها وانتقالها الى الحداثة، الى مجموعة من كبار الفلسطينيين الذين استقالوا من اذاعة {الشرق الادنى}: صبحي ابو لغد، وكامل قسطندي ومصطفى ابو غربية وفضلي الدجاني وزوجته ناهدة، صاحبة ادفأ صوت اذاعي.
وفي تلك المرحلة ايضاً انضم صبري الشريف الى الرحابنة ليقيم مدرسة في التوزيع الموسيقي ويسهم على نحو مشهود في الجماليات الرحبانية.
لا نستطيع ان نعدد اولئك الذين احبوا بيروت واحبتهم. اعطوها وحضنتهم. وقبل اشهر دعاني الدكتور انيس صايغ لأحاضر في {ندوة الثلاثاء} في نادي خريجي الجامعة الاميركية قائلا انه لقاء اسبوعي لا يضم سوى عدد مختار من الفلسطينيين المقيمين في لبنان. وعندما تطلعت في الحضور وجدت لوحة رائعة من الوجوه والمعالم والسير واصحاب التاريخ، يجمع بينهم مكان واحد هو بيروت.معظم الاسماء التي تحب بيروت جاءت اليها من الخارج تغنيها وترصعها وتدفع بعدها العربي وافقها الانساني. والقليل ممن جاؤوها من النوع الكاره الذي لا يكف عن شتمها وانكارها والمفاخرة ببغضها.
واحدهم يكتب الكتب في ذلك او ينشرها. وقد اعلن انه جاء الى لبنان وعمره 7 سنوات لكنه الى الآن لم يقبض جدياً {هذا الكيان المصطنع} وهذا البلد المليء بالادعاءات.
ورحم الله ادوارد سعيد صاحب {خارج المكان} الذي رأى مكانه الاخير في تراب برمانا. اما النكراء ومحترفو التحريض وزمارو السفه فتطيب لهم الحياة هنا. وهم يشتمون كل ما حولهم.