طفولة في الشرق الأوسط  

            للكاتب والصحفي  الأستاذ سمير عطا الله 

{استذكار الطفولة في الشرق الاوسط} كتاب صدر عن جامعة تكساس يحمل روايات مجموعة من المؤلفين والاكاديميين عن طفولتهم في العالم العربي وايران وتركيا.

طلبت الكتاب من اميركا ظناً انه يحكي عن طفولة الاجانب الذين عاشوا او نشأوا هنا. فإذا هو افضل من ذلك.

انه عن طفولة رجال ونساء نعرفهم جميعاً بالاسم والشهرة واعرف بعضهم شخصياً منذ زمن طويل. او هكذا كان يخيل اليّ. فأنا مثلاً اعرف الدكتور حليم بركات منذ اربعين عاماً على الاقل. وقرأته قبل ذلك.

وتعيش في ذاكرتي قطعة رائعة له عنوانها {اهبط ايها الموت الى كفرون}. لكنني لم اكن اعرف ان استاذ الجامعة الاميركية في بيروت، والاستاذ الحالي في جامعة جورجتاون، جاء طفلاً يتيماً الى لبنان مع اشقائه، بالكاد عليهم اثوابهم.

وكانت والدته قد سبقته الى بيروت لكي تعمل وتوفر اجرة الباص لاولادها من اجل ان يلتحقوا بها.

يقول الرجل الذي سيصبح واحداً من ابرز الاكاديميين العرب: {توفي والدي فجأة وهو في الثلاثينات، من دون ان يترك لنا الكثير، عدا بيت طيني سقفه من تراب، وبغل كان يستخدمه لنقل البضائع}.

ذات يوم يعود الاب من قرية مجاورة وهو يشعر بألم شديد. ثم يشتد الالم، فيؤتى بطبيب من قرية اخرى يعطيه حقنة لعلها كانت حقنة الموت، كما ستقتنع الام حتى وفاتها.

وفي ايامه الاخيرة يجلس الصبي الصغير الى فراش والده: اقتربت منه بخوف، رأيت وجهاً برونزياً يصبح شاحباً فجأة.

جلست وحيداً الى جانبه بينما كانت امي في الخارج تعد اللزقات الباردة. لم يتحدث اليّ ولم اعرف ماذا اقول له. مدّ يده ليمسك بيدي. كانت حارة ترتجف. حاول ان يبتسم، لكن ابتسامته كانت على غير عادته باردة وشاحبة، كنت خائفاً لا ادري ما اقول. مد يده وامسك بيدي ووضعها على شفتيه وقبّلها. وضحك عندما رآني احاول ان اشيح بوجهي عنه. ارتفعت يداه فجأة نحو السقف وهبطتا ببطء. صرّ اسنانه فنظرت اليه مرتعباً. رأيت في عينيه تغييراً شديداً. لا بدّ انه رأى الموت آنذاك وجهاً لوجه. لم استطع الحراك. ناديت امي بصوت مخنوق، صرّ ابي اسنانه من جديد، ثم مات.


بعد وفاة الاب ذلك النهار، يذهب الطفل ليلعب مع اترابه في القرية، فتلمحه امرأة على الطريق قادمة للتعزية، فتقول لرفيقتها: {اليس هذا الطفل ابن المتوفى؟ مسكين، انه لا يعرف معنى الموت بعد!}. دفن الاب في اليوم نفسه. وكان جسمه لا يزال حاراً، وسرت اشاعة بعد ايام تقول ان رجلين كانا يمران قرب المقبرة فسمعا انيناً يخرج منها. وزاد ذلك في قناعة الام، حتى يومها الاخير، بأن الحقنة الطبية قتلت الزوج وانه اخذ منها حياً.صعب على الام بعد وفاة الاب ان تجني رزقاً في القرية فغادرت الى بيروت لتعمل خبّازة في فرن. وفي المواسم كانت تعمل في الحصاد. وعندما جمعت ما يكفي ارسلت الى اولادها ان ينضموا اليها. ركبوا بغالاً وباصات قبل الوصول الى طرابلس. ومنها الى بيروت، حيث رأوا الترام للمرة الاولى. وكان ذلك العام 1942.

وكان حليم بركات في العاشرة من العمر. وكانت شقيقته تضع في قدميها قبقاباً خشبياً (مثل غوار) يصدر اصواتاً مضحكة، فخافوا ان تزعج اهل المدينة، فخلعته ومشت حافية، وسوف يصبح حليم بركات، يتيم كفرون، احد ابرز الاكاديميين العرب، وكنت احب صداقته، لكنني بعد قراءة هذا الفصل اصبحت اعتز بها.