واخد صورة كويس! 

 

للكاتب والصحفي سمير عطا الله من كتابه {مسافات في أوطان الآخرين}

حضرت قبل أيام معرض المصور العالمي يوسف كارش في قاعة {الباربيكان} في لندن وشاهدت للمرة الأولى عن كثب تلك {اللوحات} الفوتوغرافيّة التي أسمع عنها منذ ثلاثين عاماً. ويوسف كارش الأرمني المهاجر إلى كندا من سوريا بعيد الحرب العالمية الأولى هو {مايكل أنجلو} العدسة والرجل الذي جعل عين الكاميرا في قيمة الريشة والزيت والمائيات الساحرة ومكانتها. ويفاخر المشاهير في هذا العالم، سواء كانوا، قادة مثل تشرشل أو مثقلات بالجمال مثل صوفيا لورين، أنهم وقفوا ذات مرة أمام  كاميرا هذا الرجل الذي يعيش في {اوتاوا} ويعمل في نيويورك وهو الآن يعرض في لندن بعدما أخذ أول صورة رسمية لأحفاد الملكة وهو على أعتاب الثمانين.

وقد تذكرت وأنا أتنقل أمام لوحات كارش إن معظم المصورين الكبار في العالم العربي كانوا دائماً من الأرمن. وقد أفقنا في لندن على أخواننا الأرمن وهم يكسرون اللغة العربيّة تكسيراً رهيباً فيصرون على تذكير المؤنث وتأنيث المذكر، لكنهم كانوا ماهرين ايما مهارة في الصناعة وفي الحرف وخصوصاً في فن التصوير.

ويروي أن أحد أساتذة الأدب العربي سأل طالباً أرمنياً ما هو أفضل بيت قرأه للمتنبي فأجاب : {واخد بيت بيقول: بابور بيروخ هيك، هوا ملعون بيجي هيك}، أي طبعاً {تجري الرياح بما لا تشتهي السفن !}.

كان الأرمن في بيروت يعيشون في أحيائهم الخاصة وفي عالم مغلق. وباعتبارهم من أهل آسيا فقد كانوا منقسمين أيضاً وكما يحمل اللبنانيون أحزابهم إلى بلاد الهجرة حملوا هم أيضاً تلك الأحزاب، لكنهم كانوا يحرصون على أن يتم كل شيء داخل دائرة مغلقة تفوح منها روائح {البسطرما} و{السجق} وبقية الأفاوية وكأنك داخل بقالة هنديّة.

ولم يكن البيروتي يشعر بوجود الأرمن إلا في حالتين، إما أن يذهب إلى منطقة الدورة، أو أن يذهب إلى المصور، أي مصور ! وكان المصورون يملئون ساحة البرج ومعهم آلات صغيرة وسريعة أو ... استوديوهات كاملة، فتقف أمام نوافير المياه وتأخذ {بوز} وأنت تضع يدك على خدك ... واليد الأخرى على خد الزمن ! وبعد نصف ساعة يسلمك {هاغوب} أو {وارطان} أو {خاتشيك} صورة تفوق الأصل بكثير حتى تكاد لا تعرف لمن هي.

ومع ازدهار الصحافة اللبنانيّة ازدهرت الصورة الفوتوغرافيّة أيضاً.وطبعاً كان الأرمن هناك لا ينافسهم أحد. وكان في طليعة هؤلاء مصور {النهار} الرائع {سام} الذي كان شاعر الكاميرا وقد علمها كيف تحكي، أما هو رحمه الله فظل يقول : {أنا بياخد واخد صورة ميشان انتا}. وكان هناك أيضاً {همبار} مصور {الشرق الأوسط} الآن.

وكان بين الكبار هاري قيوموجيان الذي أصبح اليوم رئيس التصوير في وكالة {الاسوشيتد برس}. وعندما انضم إلى قسم التصوير في {النهار} شاب غير أرمني يدعى كلود صالحاني اعتبرنا أن في الأمر سراً ما .... أو خطأ ما ، وهو الآن رئيس التصوير لدى {اليونايتد برس} في كل أوروبا والشرق الأوسط.

ثمة علاقة غريبة بين الأرمن والكاميرا. وعندما هاجر يوسف كارش إلى كندا كان خاله قد سبقه إلى هناك ليعمل .... مصوراً طبعاً، غير أن إبن الأخت سوف يصبح أشهر {مصور وجوه} في العالم بعدما تتلمذ على يد أرمني آخر في مدينة بوسطن هو جون غارو. وبين الوجوه التي {رسمها} كارش بعدسته الصورة الرسميّة لجون كينيدي وصورة نيكيتا خروتشوف وأرنست همنغواي وجورج برنارد شو وبيكاسو ونهرو وأيزنهاور وبرتراند راسل و ... مارت لوثر كينغ.

ويقول كارش ان مهمته هي {تصوير كبار النفوس والقلوب والعقول سواء كانوا مشهورين أم مغمورين}، لكن الواقع أن لوحاته الشهيرة معلقة الآن في عدد من أهم المتاحف في العالم مثلها مثل أي أثر فني آخر.

وقد طارت شهرة كارش في العالم العام 1941 عندما ذهب تشرشل إلى اوتاوا. وكان رئيس وزراء كندا آنذاك المستر ماكينزي كينغ صديقاً لكارش فقال لتشرشل أذهب وتصّور عند هذا الأرمني. وبدلاً من ذلك ذهب كارش إلى تشرشل فوجده عصبياً متضايقاً بسبب أخبار الحرب. وما ان أخذ اللقطة الأولى حتى قال تشرشل كفى ... وهو يقطب جبينه. وفي تلك اللحظة كانت عدسة كارش تسجّل الجبين المقطب فصارت هذه أكثر الصور أهميّة لدى تشرشل وصار هو من أشهر مصوري {البورتريه}، كذلك أصبح كارش من كبار أساتذة التصوير في العصر الحديث يدعى إلى أكبر جامعات العالم للتدريس.

لكن الشيء الوحيد الذي لم يتقنه كارش هو التخلص من اللكنة الأرمنيّة التي تسيطر على إتقانه اللغة الإنكليزيّة. وربما كان السبب في ذلك أن المصورين ليسوا في حاجة إلى الكلام ولا إلى الحوار. وإذا أضطر الأمر يضع المصور رأسك بين يديه ثم يروح يزيح أنفك إلى اليسار وذقنك إلى اليمين وجبينك إلى أعلى. وبعد أن يتأملك  طويلاً من خلال نفق جلدي طويل يتبين له أن الصورة {مش تمام بابا} فيعود إلى إصدار أوامر جديدة : {بابا انتا بيخلي راسو فوق بس بيتطلع تحت عشان صورة يكون كويس}.

وهذه اللغة النغلة التي لا تفهمها أت تفهمها الكاميرا بكل صفاء. والذي يشاهد معرض كارش يخيل إليه أن العدسة تتحدث لغة واحدة : الأرمنيّة !.