بيروت الصغرى
للصحافي الشهيد سمير قصير
نشر هذا المقال في صحيفة النهار بتاريخ 20/02/2004
إذا كان المواطن لا يزال في حاجة إلى دليل على عقم رجال السياسة في هذه البلاد، فلا بد انه وجدها في السجال الدائر حول الانتخابات البلدية في بيروت. السجال نموذجي، بمعنى انه يشبه كل السجالات اللبنانية: لا يفصح عن مضامينه الفعلية، وهي طائفية في المقام الأول، ولا يترك مجالاً إلا للحلول العرجاء، في غياب أي اهتمام من الذين يغذونه بالمسألة الأهم، وهي مستقبل المدينة التي يدور حولها.
أتساس السجال أن الديموقراطية العددية، في حال بيروت الراهنة، تعني غلبة لطائفة معينة هي الطائفة السنية، لكنها غلبة لا يريدها زعيم هذه الطائفة في بيروت الرئيس رفيق الحريري. فإذا به يقترح أن تخصص نصف المقاعد في اللائحة التي يدعمها (والتي يستطيع إنجاحها) للمسيحيين من مختلف الطوائف. النية حسنة، وهي تصب في خانة العيش المشترك، لكنها تصطدم بعقبتين، واحدة عملية وأخرى رمزية. العقبة العملية تكمن في اختيار المرشحين المسيحيين. حلفاء الرئيس الحريري يقولون انهم لا يتمسكون بأحد، وانهم يتركون الخيار لـ"أصحاب العلاقة". ترى، من هم "أصحاب العلاقة"؟ الأحزاب "المسيحية"، او ما تبقى منها؟ زعماء الطوائف المسيحية، وكيف نحددهم؟ "الأعيان" وأيّهم، القدامى أم الجدد؟ المطارنة ورجال الدين؟ في الحقيقة، لا جواب مقنعاً. والانكى أن بعض دعاة الديموقراطية يكتفون بهذا النمط من التعيين شرط أن يأتي من صفهم الطائفي. أما العقبة الرمزية، فهي إن "أصحاب العلاقة" المسيحيين لا يرتاحون إلى أن يكون "ممثلوهم" في المجلس البلدي منتخبين بأصوات المسلمين.
هذه العقبة الرمزية تغذي بدورها الجانب الآخر من السجال، وهو المتعلق بصلاحيات كل من البلدية والمحافظ. حلفاء الحريري، وبعضهم مسيحيون، منحازون إلى البلدية ويطالبون بالا تظل مكبّلة بحق النقض الممنوح عملياً للمحافظ، فيما يطالب رأي آخر، يشاع انه غالب في مؤسسات الطائفة الأرثوذكسية، فضلاً عن كونه مدعوماً من خصوم الحريري في الحكم، بأن يبقى المحافظ قابضاً على السلطة التنفيذية في المدينة، وان بثمن شلل البلدية.
للتذكير فقط، إن الازدواجية القائمة في بيروت لم تنشأ لأسباب طائفية، ولا لايجاد توازن بين رئيسي الجمهورية والحكومة، بل تعود إلى النمط الفرنسي الذي جعل باريس، خشية من يساريتها وثوريتها بعد عامية ،1871 تخضع لإشراف الحكومة المركزية حتى عام .1977 في لبنان، لم تكن الاعتبارات الطبقية نفسها موجودة، لكن قوة التقليد، في عهد الانتداب وبعده، ثم قوة الواقع جعلتا ازدواجية السلطة البيروتية تستديم، حتى تلوّنت بالعبقرية الطائفية المحلية، فصار السجال حول صلاحيات بلدية العاصمة يندرج في خانة التوازنات الوطنية الكبرى، فيما تبقى السياسات البلدية في منأى عن أي نقاش.
في الحقيقة، إن كل هذا السجال، بما يفصح عنه وما لا يفصح، عديم الفائدة ومحكوم بالدوران في حلقة مفرغة، والديموقراطية البلدية في بيروت سوف تبقى مشلولة ما لم تخضع لإعادة نظر كاملة من خلال ثلاثة إصلاحات جذرية ومتلازمة: توسيع الجسم الانتخابي البيروتي حتى يشمل كل المواطنين المقيمين في العاصمة، وتوسيع الحدود البلدية للمدينة بما يتلاءم وحياتها الاقتصادية والاجتماعية الراهنة، وإقرار لامركزية بلدية تقرّب أصحاب القرار في المدينة واحيائها من ناخبيهم.
إن مسألة الاقتراع في مكان الإقامة الفعلية، لا تخص فقط الانتخابات البلدية في بيروت. فثمة حاجة لإقرار هذا المبدأ حتى في الانتخابات النيابية، وإلا سوف نبقى ننتج برلماناً يمثّل، في افضل الأحوال، بلداً مجمداً منذ عقود، فيما نشجع على الزبائنية العائلية. لكن الأمر اكثر فداحة في الانتخابات البلدية، حيث يفترض بالبلديات أن تعنى بالشؤون اليومية للذين يعيشون على أراضيها ويدفعون الرسم البلدي، وليس للذين يأتون لزيارتها في المواسم الانتخابية. حتى أن بعض دول أوروبا وصلت إلى حد منح الأجنبي المقيم فيها حق الاقتراع في الانتخابات البلدية. فكم بالحري عندما يكون الأمر معكوساً، أي عندما يكون اكثر من نصف المواطنين المقيمين في المدينة، وبعضهم اباً عن جد، محرومين من المشاركة في اختيار مجلسها البلدي، كما هي الحال في بيروت، بحجة أن محل "إقامتهم" الرسمي يقع خارجها. أما أن يكون الاقتراع في بيروت حكراً على "البيارتة"، فهذا يتلاءم ربما مع نكات "أبو العبد"، لكنه بالتأكيد لا يفي بشروط الديموقراطية المحلية في بداية القرن الحادي والعشرين.
وما يقال عن ديموغرافية بيروت الغائبة عن انتخاباتها، يسري أيضا على جغرافيتها. فأي طالب سنة أولى في الجغرافيا يستطيع أن يرى إن حدود بيروت الإدارية لم يعد لها معنى في الواقع. فلا النهر في الشمال الشرقي، ولا الرمال في الجنوب أوقفت تمدد المدينة وتواصلها العمراني. حتى سفح الجبل لم يعد يحدّها، على الأقل حتى علو 250 متراً. ثم هل يُعقل أن تعتبر الغبيري او فرن الشباك خارج المدينة؟
لن يكون من السهل بالتأكيد رسم الحدود الجديدة للمدينة، وثمة مروحة من الخيارات ضمن ما يسمى "بيروت الكبرى". ليس المطلوب قطعاً تحويل كل بيروت الكبرى إلى بلدية واحدة، وخصوصاً أن هذا المفهوم خاضع هو نفسه لقراءات متعددة، وأحيانا مبالغ فيها كالتي تطلق هذه التسمية على كل المنطقة الممتدة من جبيل إلى الدامور، مروراً بعاليه. ولا بد من إجراء حسابات دقيقة، اقتصادية واجتماعية وضريبية، قبل أي ترسيم جديد، ألا انه يمكن منذ الآن طرح احتمالين: خيار ضيق يضع حدود بيروت بين نهر الموت شمالاً وخلده جنوباً مروراً ببرج حمود والدكوانة وسن الفيل وفرن الشباك والشياح وبرج البراجنة والغبيري. أما الخيار الأوسع، فقد يذهب إلى انطلياس شمالاً ليشمل دوحة عرمون في الجنوب الشرقي والحازمية - مار تقلا شرقاً.
واياً يكن الخيار، فإن توسيع بيروت لا يفيد فقط للانتخابات البلدية، بل قد يكون شرطاً لتنظيم مدني اكثر التصاقاً بالواقع الحياتي للناس، وهذا ما ينطبق أيضا على مدن أخري، ومنها طرابلس ذات البلديتين، وجونيه التي يجب أن تشمل المعاملتين وساحل علما وادما، من دون أن ننسى زوق مكايل (وعلى أمل أن يصبح نهاد نوفل على رأس هذه البلدية الموسعة)، وربما أيضا صيدا والنبطية. الورشة كبيرة، من دون شك، وخصوصاً إنها تستتبع إعادة رسم الاقضية والمحافظات في حال بيروت، ليس فقط لان توسيع حدود العاصمة سوف يأكل من مساحة المتنين، بل أيضا لان الأسباب التي تدفع إلى إنشاء بلدية بيروت المكبرة تدفع أيضا إلى إقامة محافظة أوسع منها تشمل بلدات بيروت الكبرى، ولا غضاضة عند ذلك في أن يكون على رأسها محافظ تناط به صلاحية التنسيق (وليس حق النقض)، أيا تكن طائفته.
يبقى أن التضخم الذي سوف يطول الجسم الانتخابي البيروتي جراء توسيع حدود المدينة، ومنح حق الاقتراع لكل المقيمين فيها، ينطويان على خطر أبعاد المواطنين عن الشأن البلدي. وعليه، فلا بد أن يتلازم هذان الاصلاحان مع ثالث يقضي بإنشاء دوائر تعهد كل واحدة منها إلى بلدية فرعية، وفقاً للنمط الباريسي الجديد. فاللامركزية البلدية تستطيع وحدها تأمين التواصل بين المواطنين ومن ينتخبونهم لرعاية شؤونهم اليومية، فضلاً عن كونها تفضي إلى طمأنة الجماعات الطائفية المختلفة إلى أن وجودها سوف يترجم في سياسة المدينة، مما يغنينا عن السجال العقيم حول صلاحية المحافظ وانتمائه الطائفي.
وفي ما عدا إصلاحات بهذا الحجم، فان السجال "البيروتي" الراهن ليس في مستوى مدينة كانت ذات يوم حاضرة العرب، ولا يخدم اندفاعها لاستعادة ألقها. فكيف لمدينة الاختلاط أن تكبر إذا كان "أعيانها" لا يرونها إلا صغيرة صغر مخيلاتهم؟