صباح القهوة يا بيروت

الفنجان رفيق الشباب والدلّة جارة المثقفين  

بقلم شاكر وهبي

تستعيد بيروت قهوة الصباح، لكن بفنجان متعدد الجنسيات، حيث مختلف أنواع البن باتت تغزو أسواقها، من اليمني، والافريقي والبرازيلي إلى الأميريكي المعروف باسم {أرابيكا}، وصولاً إلى حضور الكثير من العادات الخارجية المختلفة والمتنوعة في التحضير.

كانت نور غندور تلاحظ ان اهلها يتناولون القهوة بكثرة. ولا تنسى تحذيراتهم حيناً، ونصائحهم احياناً، من انها {مشروب الكبار}، وليس الصغار والاولاد، {لانها تؤدي إلى الارق والقلق والاضطراب واهتزاز الاعصاب} لكن جيلها لا ينسى ايضاً ما هو عكس ذلك عندما كان يسمع في الصغر تهافت كبارهم على الاسراع في تناولها وبكثرة، بحجة ان اعصابهم مضطربة، وان عدة فناجين من {مشروب الكبار} كفيل بتهدئتها.

هكذا ارتبطت القهوة في اذهان ابناء ذلك الجيل بانها مضرّة ومؤذية، وان تناول الشاي والعصائر، مثلاً، افضل منها، واقل ضرراً ان لم تكن اكثر من فائدة.

لكن الامر اختلف عندما كبر الصغار، وانتسبوا إلى مدارس وجامعات، واختلطوا في المجتمعات، وقرأوا في المكتبات عن تاريخ البن، وعادات الشعوب فيه، واعتبار تقديم القهوة نوعاً من اصول الضيافة، كما يقول الوزير المفوض في السفارة اليمنية في بيروت عبدالله الحاج المحلوي الذي تنقل عنه كاترين حنا قوله: البن رمز للضيافة عندنا. وتقديم القهوة واجب لتكريم الضيف او الزائر، وهو يتخذ تقليداً معيناً، خاصة في مناطق البداوة حيث يسرع البدوي إلى تقديم الفنجان، وهو عادة صغير الحجم، إلى ضيفه فور وصوله، وبكمية قليلة، ويبقى يملأه بالطريقة نفسها كلما ارتشفه إلى ان يهز الزائر فنجانه امام مضيفه تعبيراً عن الشكر والاكتفاء.

بهذا المعنى صارت القهوة لدى الجيل اللبناني الشاب رمزاً لحسن الضيافة، خاصة {القهوة العربية} وبالمراقبة والمعاينة ترسخت الفكرة اكثر.

فلا تدخل إلى منزل رئيس مجلس النواب نبيه بري، مثلاً، او مكتبه، الا وتشعر ان حامل دلة القهوة العربية يكاد يسبقك وكأنه يريد {خطف} مقعدك قبل ان تجلس عليه.

لكن الأمر غير ذلك طبعاً، والمقصود حسن الضيافة والترحيب بالزائر، اياً يكن، حتى لو كان طالب خدمة او حاجة، بتقديم فنجان القهوة، واعادة زيادته مراراً وتكراراً حتى يهزه حامله، على الطريقة العربية المعروفة والتي اشار اليها الدبلوماسي اليمني في بيروت.

ويتكرر المشهد في منزل رئيس الحكومة رفيق الحريري، ولدى الكثير من كبار المسئولين والسياسيين ورجال الاعمال وسواهم ممن تلفت الضيافة {القهواتية} لديهم الجيل الشاب.

ولان: {احداً ليس احسن من احد}، كما يقول المثل الشعبي اللبناني، حتى ولو اختلفت المقامات والمراكز، بما في ذلك احجام {الجيوب} سواء انتفخت او ضمرت، فان ابناء ذلك الجيل يلجأون إلى تكريم بعضهم البعض بالدعوة إلى تناول فنجان قهوة في كافتيريا الجامعة، مثلاً، او احد المطاعم كما تفعل يومياً، ومراراً، رنا خباز وليليا مزهر ميا دعيبس اللواتي لا يمانعن اطلاقاً، كما يقلن: بان تكون الضيافة {على الواقف}، امام احدى سيارات قهوة الاكسبرس ـ السريعة ـ الجوالة في شوارع بيروت، كما في العديد من المناطق خاصة في المدن منها.

ولان ذلك الجيل لم ينس حتى الان ايضاً ما كان يسمعه في الصغر من إرتشاف الكبار للقهوة رغبة في تهدئة أعصابهم، كما كانوا يقولون، ولانه يعاني من زحمة الاضطرابات والقلق وحتى الانهيارات العصبية احياناً في علاقاته الحياتية والمعيشية، وعلى الاخص العاطفية منها، فلا بأس من فنجان قهوة الذي يبدأ الشاب تناوله صباحاً وظهراً ومساء، او كل ست ساعات، حسب ما هو {دارج} في الوصفات الطبية، ليتحول الامر إلى ارتشاف {فنجان قهوة بين كل واحد وآخر}، حسب ما يسخر منه احد المثقفين الشبان وهو يرتشف فنجانه العاشر في احد مقاهي شارع الحمراء، قبل ان يحل الظلام ويتهجر إلى منزله حيث يبدأ ليل القراءة والكتابة بالقرب من دلة قهوة تجدد شباب غليانها وحضورها باستمرار حتى اخر الليل، وقبل ان يبزغ صباح جديد مع {قهوة بيروت}.