بيروت بمنازل كثيرة  

للصحافي محمد الحجيري

نشر في ملحق جريدة النهار يتاريخ26/أيار/2002

بيروت صُوَر متناقضة، هجينة، مدينية وقروية، خيالية وواقعية، أريستوقراطية وشعبوية، حديثة ورجعية، قلقة ومقلقة، منفتحة ومغلقة، ماضوية ومستقبلية، حرة وواقعة تحت الوصاية. والمقال هذا على صورة هذه المدينة ومثالها.

 يحلو لوزير بارز القول: {قبل الحرب كان لبنان عبارة عن مخزن كبير (سوبر ماركت) وسط صحراء قاحلة وإذا به بعد الحرب حانوت وسط غابة مخازن}، في إحالة على الدور الذي كان لبنان  يتمتع به في زمن البحبوحة، عندما كانت الدولة تقرض أموالاً للخارج والموازنة تسجل فائضاً، مقارنة مع ما آل إليه لبنان بعد الحرب إذ تدحرج إلى مرتبة تعيش على هامش الحياة والاقتصاد العالمي.

الحق انه قبل الكلام عن دور لبنان "الحانوتي" في هذه الايام، لا بد من الإشارة إلى الدور السوبر ماركتي السابق، فقد كانت بيروت تعتبر مفترق طرق الشرق الأوسط ومركز البيزنس ومدار سجال بين الأفرقاء اللبنانيين، بين مؤيد ومعارض. وكان سليم البستاني، الذي يعتبر من المنظّرين الأوائل للايديولوجيا اللبنانية، يقول عن لبنان - بيروت: {أصبحنا بابا يدخل منه الغرب إلى الشرق ويخرج منه الشرق إلى الغرب، ولا يكتفي بالوصف بل يدل على النشاطات الاقتصادية التي توافق مركزنا} (بيروت).

 والأمر نفسه مع ميشال شيحا، في تنظيراته الاقتصادية القائمة على {الأعجوبة}. وهذه وتلك كانتا مدار هجاء من بعض اهل اليسار، فقد وصف أحدهم بيروت في ظل الاقتصاد البورجوازي بأنها كالبطن في الجسم، حيث الأطراف تتعب ليلتذ البطن. والقصد بالأطراف، المحيط الأقليمي للبنان. وحين أراد كمال جنبلاط هجاء لبنان وصفه بأنه "دكان على البحر". لكن هذا الدكان تحول "ساحة" لحروب متعددة الأشكال والأطراف، من ثمارها قتل الدور التجاري الذي قامت على بعض أسسه الايديولوجيا اللبنانية، وزوال الرمز التوحيدي لبيروت (ذلك في شكل مواز لتفكك المجتمع اللبناني وتجزئته) وتعدد الصور لهذه المدينة، بين بيروت {خيمتنا} (محمود درويش) الى {ست الدنيا} (نزار قباني)، ومن {سويسرا الشرق} إلى {هانوي العرب}، ومن {الكوزموبوليتية} الى {كلنا مقاومة}، فتأخر لبنان عن محيطه وهذا جعله حانوتاً صغيراً وسط غابة مخازن في تعبير الوزير البارز.

{إشعاع} الضرة

وإذا كان العمل الأول للمدن فور خروجها من الحروب المدمرة هو رفع أنقاضها ثم {ترميم ذاكرتها}، على تعبير المهندس جاد تابت، فالكثير من اللبنانيين بعد الحرب راحوا يتذكرون زمن البحبوحة والثقافة والفعل السياسي، وهم ينظرون بنوع من الارتباك إلى ظواهر اقتصادية تنمو في بعض دول الخليج العربي. فما كانت تتمتع به بيروت من وهج اقتصادي وتجاري قطفته أمارة دبي فأصبحت هي {بلد الإشعاع والنور}.

وما كان يفتخر به اللبنانيون على مستوى حرية الصحافة وتقدم وسائل الإعلام، بات اليوم مدعاة أسئلة كثيرة حول {سر} نجاح محطة {الجزيرة} الفضائية القطرية، والتي لا تتردد المحطات اللبنانية في تقليد برامجها وصخبها. وإذا كان لبنان مفخرة الديموقراطية في زمن الستينات والسبعينات فقد بات مثقفوه ينظرون أخيراً {بتعجب} الى الديموقراطية في البحرين، في وقت تقبع الديموقراطية اللبنانية تحت قبضة الوصاية السورية التي أنتجت حالاً مستمرة من التدهور على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، هذا من دون أن ننسى كيف {يندب} بعض أهل الثقافة في لبنان الأيام الخوالي، ويترافق ندبهم مع شعور بـ{الغبن} بسبب تقلص دورهم وتشتتهم.

 والحق إن هذه الأمور تومىء إلى قلق اللبنانيين على دورهم، وهي تالياً إشارة إلى تحول قد يكون ايجابياً في الدول الخليجية التي طالما كان البعض ينظر إليها  نظرة ازدراء وتكبّر. في المقابل، يعيش لبنان منذ اتفاق الطائف أزمة اقتصادية وسياسية تهدد مكوّناته. فكأن الآية انقلبت، ذلك إن بيروت التي وصفها احد الكتّاب بأنها {بلاد الما بين}، أي إنها {أما مدخل إلى غيرها من بلدان الجوار وأما مخرج منها}، لم تعد كذلك. كانت علاقة بيروت مع محيطها، مزيجاً من الإعجاب والرفض، ذلك أنها كانت تتبادل مع محيطها النظرات من دون أن تتفاهم معه. لكن يبدو الآن أن محطة {الجزيرة} تأخذ هذا الدور. واذا كان الأديب السوري محمد كرد علي جعل بيروت في زمن مضى، من {غرائب الغرب}، فاللبنانيون وغيرهم في هذه الأيام يذهبون إلى دبي ويصفونها بأنها من {غرائب الكون}، في المعنى المجازي.

باتت دبي تقلق بيروت. دبي، هذه {القرية الكونية} بتسمية ديفيد هرست، كتلة من التناقضات الكوزموبوليتية، تجمع بين الدشداشة والانترنت، ويعمل في ربوعها أناس ينتمون إلى أكثر من 162 جنسية. مهاجرون نسبتهم قياساً إلى أهل البلد الأصليين اكبر نسبة في العالم. في دبي نفسها لا يشكل مواطنو الإمارة سوى 8 في المائة من عدد السكان الذي يتجاوز المليون.

دبي تقلق بيروت، كونها تعج بالمشاريع والأفكار الجديدة التي تستلهم أحدث التقنيات الحديثة المتطورة. فإلى جانب الموقع الحكومي على الانترنت، تخرج من الصحراء مدينة انترنت ومولتيميديا جديدة معفاة من الضرائب، مع ما يرافق ذلك من ملاعب غولف وشركات معلوماتية.

وإذا كان سليم البستاني يسمّي بيروت {مركزنا} فإن الإماراتيين يسموّن دبي {محورنا} كونها تجذب المستثمرين وتشكل عاصمة البيزنس بين الدول المتطورة في الغرب من جهة، ودول الشرق الأقصى من جهة ثانية، وتشمل شبه القارة الهندية والعالم العربي وأفريقيا.

على انه غداة شراء شركة {سوليدير} الوسط التجاري في بيروت، وزعت لافتات كتب عليها {بيروت مدينة عريقة للمستقبل}، والأرجح ان أذهان دعاة {العراقة} (السوليديريين) كانت مصعوقة بالإشعاع الذي تتمتع به دبي، وتسعى إلى التماثل معه. وهنا السؤال هل تكون بيروت دبي؟!

لا شك في أن عملية إعادة بناء وسط بيروت شكلت القطب الجاذب في عملية إعادة الاعمار في لبنان، كنموذج لتهويمات الحداثة. وإذ بدأت علامات {الحداثة} البيروتية بالظهور، فهي أتت لتضاعف تناقضات هذه المدينة التي لا تزال في طور البحث عن ذاتها. فلقد تم تجديد المطار وفق المعايير الدولية العامة، لكن مدرجاته لا تزال تتنازع كثبان الرمل مع المساكن المشيّدة والمتراكمة في الضاحية الجنوبية بفعل الهجرات المتتالية. وأيضاً أعيد اعمار المدينة الرياضية لكن مخيمات اللاجئين الفلسطينيين لا تزال تحيطها. وما هو عمراني ينطبق على ما هو اجتماعي وسياسي، من حيث التباين والتخاصم والتناقض.

تناقضات الدنيا والجنة

ويسع المشّاء والمتسكع في شوارع بيروت الملتوية وأزقتها الضيقة، ان يلاحظ ان هذه المدينة الساحلية لا تستوي على سمت، اذ تتراكم عليها أنماط سكن وطرائق حياة وتعبيرات وسلوكيات ومشهديات متنافرة ومتباعدة. فالعين (عين المشّاء) تلتفت في مسرح العيش اليومي إلى هو نافر حقاً. فها فتاة محجبة تقود سيارة ذات دفع رباعي بطريقة تجعل دواليبها تغزل (تشفط) وهي تسمع أغاني {البوب} الغربية، في مشهد تكتنفه السوريالية بامتياز. ومبعث الالتفات إلى مثل هذا المشهد انه يقوم على التناقض الصارخ، وهو رغم ذلك صار من البديهيات اليومية. الأمر نفسه حين يصادف المرء مجموعة شبان في سيارات فارهة ولماعة، وهم يستمعون عبر الراديوهات المثبتة في تلك السيارات على الندب الكربلائي الحزين والبكائي. أو حين يتأمل المرء شرفة أحد الأبنية التي تنتمي إلى الحداثة، فيشاهد رجلاً يشرب النارجيلة التراثية. أو حين يمر في شارع مار الياس فينبهر بلمعان الواجهات وأناقة النساء ثم ينعطف قليلاً نحو حي اللجا فيشعر انه دخل قرية فيّ المدينة.

يسع المشاء أيضاً أن يلاحظ أن لا شيء يبقى على حاله في هذه المدينة، ولا شيء يبقى في دوامه. فصالات السينما العتيقة تتحول محال لبيع الألبسة الشعبية، وبعض المطاعم التقليدية تفتتح مكانها مطاعم للوجبات السريعة. حتى الشوارع لا تبقى على حالها، اذ يمكن أن يتدهور شارع اريستوقراطي إلى حد يصير مكاناً لبيع الأدوات الرخيصة. ايام العز التي تميز بها شارع الحمراء ما عادت تصلح له اليوم. ربما {قطفتها} شوارع أخرى. لسنوات قليلة خلت لم يكن شارع فردان لامعاً، ولم يكن له هذا الإبهار، لكن ها هو الآن واجهة البورجوازية الجديدة. شارع مونو يبدو الآن وكأنه هبط من السماء.

بيروت، في إزاء هذا التبدل وهذا التناقض، تبدو خيمية ليست هرمية. مدينة بلا رأس، وسط أجسام متنوعة ومتعددة. أجسام مؤلفة من مدينيات (تصغير مدينة) يرتبط بعضها بالبعض الآخر ارتباطاً عنقودياً كالحبات العنقودية (في تعبير احد الكتّاب)، ولا تندمج اندماج الأطراف في الجسم.

والحق إن العنقودية في الشكل تنطبق على السياسة المتبدلة في لبنان، أو على ما يكتنفها من ذاكرات، فمنذ  قررت الدول الاستعمارية وفي صورة خاصة فرنسا، في النصف الثاني للقرن التاسع عشر، أن تجعل من بيروت قاعدة لتغلغلها في الشرق الأوسط، بدا إن تطوير وسطها التجاري يشكل العنصر الرئيسي في تنظيم المدى على صعيد المنطقة ككل. وغداة الانتداب أرادت فرنسا، انطلاقاً من الفجوات التي خلّفها تدمير السلطات العثمانية للأحياء التقليدية في المدينة، إظهار لوحات حضرية جديدة، وتنظيم مديني للرسومات والاحتمالات والتخطيطات الكبيرة، لتبرهن لسكان البلد وللقوى المستعمرة المنافسة على حد سواء، إنها تخلف الفينيقيين والرومان والأتراك والعرب في هذه البقعة من العالم. وابتداء من عام 1920 عرفت بيروت المشرقية تحولات عميقة. انه عهد عمليات التجديد الواسعة لوسط المدينة، حيث تزامن إنشاء ساحة الشهداء مع تشكل بيروت الحديثة، وتشكلت ساحة النجمة تبعاً للحظة شعاعية، كولونيالية المولد، فصارت  ساحة للسلطة السياسية، وهي تخطيط إشعاعي لباريس مصغرة، واعتبرت الساحة صورة للبورجوازية المدينية.

أما ساحة الشهداء فقدمت نفسها كحيز مفتوح وديناميكي، تكمن عناصر قوته في صنع صور متعددة وجمع ممارسات مختلفة في حيّز مشترك. وبقيت هذه الساحة شاهداً على ان الحرب كانت عنيفة. نصب الشهداء الذي طالما انتصب في وسط الساحة التي تعرف باسمه، هو الآن قيد الغموض الذي يكتنف مصير الساحة نفسها. وإذ يسيطر الفراغ عليها، يظل الرهان على مستقبلها. فهي الجزء الأساسي في المسار التنافسي مع المدن الأخرى كونها تشكل الحيز الرئيسي الجامع في بيروت.

بيروت عنقودية. كانت في الماضي تقلق المحيط العربي، أما الآن فيأتيها القلق من هذا المحيط. وأحوال بيروت عامة كأحوال أحيائها، حيث الشوارع والجادات الكبرى التي شقت بعد {ثورة}،1958 مزقت النسيج التقليدي لأحياء بيروت الشعبية (جاد تابت) وشكلت شبكة من المربعات المتتالية المتشابكة لا نظام واضحاً للتوجه فيه إلا للذي يعيش في داخله. فهو تنظيم قائم على شبكة من الممنوعات والحقوق الممنوحة، مركّبة على مستويات متعددة من الانغلاق والانفتاح، يبدو للذي يراه من الخارج كأنه لا منطق له. مدينة يستحيل للغازي حل لغزها وتركيبها، وقد ازدادت أمورها تعقيداً مع الفترة الحريرية وتكاثر الانفاق والجسور.

والحق ان السمات العامة لمدينة بيروت، كالشوارع الملتوية والأزقة الضيقة والبيوت المتراصة وغياب التخطيط الهندسي، ما هي سوى انعكاس للتنظيم الاجتماعي عينه، ذلك إن ترتيب الشوارع والأحياء واقع ذهني وإجتماعي قبل ان يكون تخطيطاً هندسياً. وعلى هذا، فخريطة بيروت اجتماعية وليست طوبوغرافية. بيروت متناقضة ومتنازعة، فكل مشهد فيها يذهب في اتجاهات كثيرة. إنها مدينة للفوضى، فهي في الكثير من ثقافتها تقيم على فعل "الوقوف" والمراوحة، والراجح في هذه الثقافة إنها - في جملة حقائقها - نتاج المهاجرين والمهجرين. فهم يأتون المدينة ولا يستوطنونها فعلاً، بل يحتفظون بالتقاليد التي حملوها معهم من القرى، او هم يجهدون لحفظ هذه الثقافة، ويتباهون بحبهم لمناطقهم.

صورة بيروت {الغربية} شوارع ملتوية ومتراصة، في مقابل بيروت {الشرقية"}،التي تفتح على داخل لها هو الجبل المسيحي. ذلك ان هذه المدينة شهدت قبل اندلاع الحرب عام 1975 بزمن، توسعاً سريعاً نحو الشرق في اتجاه التلال. هكذا لم يعد مركز الثقل لهذا التجمع الجديد في بيروت نفسها، فأحياء بيروت الشرقية تتميز بحسب دارسي المنطقة بطابعها المسكني الصرف، وهي لم تشكل يوماً محوراً مدينياً للعاصمة لأنها استوعبت تدريجياً القرى القديمة.

وبين بيروت {لغربية} وبيروت {الشرقية} ثمة فاصل. في منطقة الحمراء قلما وجد المرء سيارة سرفيس تقله الى ساحة ساسين. عليه ان ينتظر {جحش الدولة} او الأوتوبيسات الخاصة، ذلك أن السرفيسات ترسم حركة سوسيولوجيا النقل في بيروت، وترسم الخريطة الاجتماعية إلى حد ما. فالمسافة بين السوديكو (مدخل الاشرفية) وبشارة الخوري أمتار قليلة، مع ذلك تبدو هذه الأمتار فاصلاً بين مدينتين. مدينة متصلة بالمدينة ومنفصلة عنها. فهي ليست ضاحية للمدينة، وليست في قلبها في آن واحد. الأشرفية صورة لحي متصل بالمدينة ومنفصل عنها، في مقابل الأوزاعي والجناح وشاتيلا وغيرها، وهذه كلها تؤلف قرى في المدينة تعج في أشكالها الهجينة.

قصارى القول إن بيروت الحانوتية قائمة على الصور والتناقضات، وهي الآن في زمنها الحانوتي. وإذا كانت تريد منافسة دبي، فثمة دون ذلك عثرات سياسية من سلطة الوصاية ومن الواقع اللبناني والبيروتي الصاخب بالتعقيدات.

والخوف كل الخوف أن تصير بيروت محض كشك في أحد الأيام.