(وسط بيروت) المستعصي... يشيد الحنين ذاكرة
بقلم أحمد الأسعد
بعد كل الذي حدث تبدو بيروت وكأنها استعادت نفسها لتخاطب الجميع بحديث واحد وروحية واحدة، قائمة هناك في ذلك المكان الذي يدعى {الوسط} فاتحة حوارا لا يخلو من الالتباس، هل الذي مر عليها كان حقيقياً؟
وهل الذي نشاهده الآن هو فعلا سيرة متألقة لمدينة عرفت الإحباطات والفتوحات على امتداد قرون طويلة؟
لكن العين البصيرة لا يغالبها الظن، فالرؤية باتت واضحة ومكتملة وفيها الكثير من الصدق.
ولعل أولى الاجابات تأتي هذه الأيام بالذات من تلك الشوارع التي تضم ما يسمى بشارع المعرض، وشارع المصارف، هذه الشوارع القائمة بين أبنية صفراء وبيضاء وحمراء وخضراء بهندسة لكل المحتلين الذين مروا: من الاتراك باستعمارهم الذي دام نحو 400 عام الى الفرنسيين بانتدابهم بعد ذلك في بداية القرن العشرين يبدو المكان وكأنه يعيد كل تلك القصص المنسية بعد أن رفع قوائمه متعالياً ـ خلال عقدين من النزف المتواصل ـ كظبي يختال في واحة بعد أن عرف معنى التصحر والجفاف.
أناس من كافة أرجاء لبنان، ومغتربون وأجانب أتوا ليسمعوا {بعيونهم} حكاية المخاض الذي أعاد الحياة الى هذه الشوارع المتجاورة.
من يقرأ التاريخ يعرف بأن هذا {الوسط} هو كل بيروت التاريخية من هنا مر نبوخذ نصر الكلداني وحول بيروت الى خرائب في الهزيع الأخير من القرن السادس قبل الميلاد. وكذلك فعل تريفون السلوقي وأحرقت بيروت بأمر منه وزيادة في النكاية فانه أطلق جماعته يعملون في نقض بنيان المدينة من أساسه فأمست خراباً يخيم على أطلاله اليوم وينعق في أنقاضها عذاب البين.
وقد بقيت بيروت على خرابها أنذاك الى حين زوال العهد السلوقي وقدوم الرومان الذين أسسوا مدرسة القانون الفقهية التي ما زالت أعمدتها اليوم تتنفس هواء الألفية الثالثة على مقربة من مطاعم تقوم على تخوم هذه الاثار تحدث الرائي قصة الغزو في فنجان قهوة أو كوب بارد.
وما كادت بيروت تسترد أنفاسها بعد الذي أصابها من ويلات المتصارعين على النفوذ من الأجانب على أرضها في السنوات السابقة على الميلاد، حتى وجدت نفسها في السنوات اللاحقة للميلاد تترنح تحت ضربات الزلازل التي نشبت في أديمها وجعلت عالي أرضها سافلاً وسافلها عالياً.
ويقال بأن الهزة الخامسة أو الزلزال الخامس الذي وقع عام 551 م. دك أبنية بيروت الشامخة وأصبحت الابنية قاعاً صفصفاً، وهلك تحت أنقاضها جم غفير من الآهلين الساكنين فيها الذين يبلغ تعدادهم بنحو ثلاثين ألفاً ويزيد. وكانت الخسارة الكبرى خراب المدرسة الفقهية التي أنشأها الرومان ودفن تحت أنقاضها طلاب العلم والمعرفة التي تباهت بيروت بهم.
ولن نتوغل في التاريخ اكثر يكفي أن نقول بأن قلب المدينة هو اول من توجه اليه المتصارعين في الحرب الاهلية اللبنانية، باعتباره قلب المدينة وسوقها، وشريانها، ومضخة الحياة فيها. ووجهوا اليه رصاصاتهم وقنابلهم فتحول الى ساحة وغى لا تعيش فيها الفئران والكلاب النابحة، ولم ينج من هذا الوسط اي مبنى او جامع او كنيسة أو معقل فني وحضاري الا وتهدم، وصار المكان أقرب الى ساحة أشباح لا يقترب منه احد، حتى المالكين تناسوا اموالهم وأرزاقهم وفروا بما ملكت يداهم لبناء تجارة اخرى أو مورد رزق آخر في مكان جديد من هذا الوطن أو هرب الى الخارج حتى يبقي على البقية الباقية من طموحه وما ملكت يداه.
تبدو الاجابة صعبة فلا اللبنانيون ولا البيروتيون صدقوا ما حصل لقلب مدينتهم، ولا أحد يصدق ما حصل بعد ذلك في بداية التسعينيات حيث عاد القلب يضخ دماءه الجديدة بحلة جديدة، ابنية عريقة قامت، الحائط المتهدم ارتفع، الكنيسة المتصدعة عادت تقرع أجراسها والمآذن المكسرة ترفع صلواتها في حينها كيف تم كل ذلك؟ انه الجواب الذي يكسر قلب اللبنانيين فيقولون لقد دفعنا ثمن حربنا، فتهدم الوطن وقد دفعنا ثمن الاعمار فأصابنا الفقر والعوز، واعادت شركة سوليدير، اهم شركة اعمارية عرفها الشرق تعيد تعمير بيروت بعد ان نزعت المباني من حق مالكيها مقابل حفنة من المال ولا احد يرضى بنصيبه لا سيما بعد ان صار {الوسط التجاري} يضاهي بجماله اعرق بقعة ارضية في معمورة الارض. قد يبدو الكلام سفسطائيا الا انها الحقيقة التي ما زال اصحاب الاملاك يرتشفون قساوتها حتى الساعة، فكل جنى العمر ذهب مع ريح {سوليدير} ولم يعد يملك الا البكاء امام متجره القديم الذي اصب عنوانا انيقا لمتجر مستحدثة كالفارجين ميغا ستور، وايشتي ونيكي واديداس، وبكلمة أخرى اصبح المكان الذي شهد اكبر مقبرة جماعية للارث والمال، اهم سوق تجاري في الشرق قاطبة لا تطأه الا أقدام القادرين وأصحاب المزاج الخاص لشرب فنجان قهوة أو تناول وجبة بأغلى الاسعار مقابل ان يتفرج على دائمة الاعمار القادم من كل تواريخ المستعمرين الذين قضوا وبقيت بيروت تشهد على حضارتهم، ونقوشاتهم وحماماتهم، وأعمدتهم وهم يسرحون النظر بين الذي كان والذي صار.
عائلات بأفرادها كبارا وصغارا، وشباب كثر جاءوا الى هذا المكان في {الوسط التجاري} ليشكلوا حركة قلب المدينة، ويصنعوا منه حدثا مغايرا لتاريخ الشوارع في المدن اللبنانية، حيث الدخول بالسيارات اليه ممنوع مما حول المنطقة الى مكان للنزهة في المساء وللعمل في النهار، حيث تعتبر اكبر تجمع للمصارف وعالم الاموال في لبنان، اضافة الى وجود مبنى البرلمان، والسراي الكبير الذي يقف شاهدا لاهم عمارة تركية يقطنها رئيس مجلس الوزراء. هذا الحضور العام هو اشبه ما يكون الى حضور الساحات الاوروبية بمعناها العريق كما في {براغ} أو{بودابست} أو {كراكوف} تلك المدن التي تتحول ساحاتها الى مزارات ذات مناخ خاص، تفوح منها رائحة الامجاد الغابرة.
تقول ماري جيم سائحة ايطالية:
{غريب امر هذه المدينة التي رافقت كل الاحداث التي ألمت بها، وكنا في الناحية الاخرى من العالم نتألم لجراحها، وها انا اليوم اتيت لاشاهد بأم العين، ماذا حدث لها فعلا، الا اني اصبت بخيبة جميلة، فلم اشاهد اي منظر للدمار أو كارثة بحجم عشرين سنة حرب، ما أراه هنا الان عمارة أنيقة فيها الكثير من المعالم الايطالية والاوروبية الموجودة في وطني، انا من دون ان أعرف ماذا حصل فعلا، ادركت أن ثمة شعبا هنا ذا اصرار قوي على بناء كل ما تهدم وحيوية لا مثيل لها.{
الضياع عند مدخل {سنتر فيل} ليس تيها، فحثيث الخطى يدلك على المكان المقصود، لتتفاجأ بشرائط ملونة مرفوعة كسور للسوق يحرسه جنود يسهلون مرور السيارات المزدحمة نحو الشوارع الاخرى ويمنعون وقوفها في الجوار، جو الاستقبال تعرفه قبل الوصول فيبدو كمناسبة عيد قوامها الفرح والحفر في الذاكرة لا سيما أثناء الغروب حين ترتفع مئذنة الجامع بالصلاة وتقرع أجراس الكنيسة بالابتهالات، فيتلاقى الصوتان في الجوار ولا فاصل بينهما، ما يعلن بأن الذي مر كان هراء باهتا دفع ثمنه شعب بكامله، ومدينة كانت تريد غير ذلك التاريخ الذي يدعونه بالطائفية.
ولأن المكان عربي فرائحة النارجيل تبدو طاغية في المكان ترحب بالضيوف الآتين من اماكن بعيدة، وتفتح امامهم السجاد الملون ذا الاعمار المتفاوتة وكلها موغلة في القدم وغالية الثمن. يقول احد أصحاب محلات مكتبي للسجاد:{كان لنا محل هنا ولأن ذلك الزمن كان زمننا رأينا من الافضل لنا ان ننساه ونمشي، ورأينا في عرض سجادنا هنا في وسط الشارع وعلى الارصفة دليلا على التشبث بالبقاء، وعراقة لاسمنا في هذه التجارة فهدفنا من العرض ليس تجارياً بقدر ما هو نوع من التحدي القائل اننا باقون وعائدون الى حيث كنا منذ زمن نعلن رجوع الماء إلى مجاريها صافية نقية}.
تقول إميلي نعيم إحدى الزائرات اللواتي التقينا بهن في أمسية ذلك اليوم:
{فجأة وجدت نفسي هنا في ـ الوسط ـ تائهة أبحث عن عنوان وإذ بي أرى هذا الجمع الغفير من الناس يمشي، وكأن بهم سحراً كلهم يشدون خطاهم في اتجاه واحد فرحت أواكبهم، أفتش معهم عن شيء ما، بدا لي سرا في باديء الامر، وأكملت معهم بحثا عن ـ عنواني ـ الضائع، وإذ بي أجد أني مشدودة، نحو مدينة كنت أظن أني اعرفها، وفجأة اكتشفت أني أتعرف عليها من جديد. فتابعت مواكب الخطى وسرت مع الجمع الكثير ورأيتني هنا قرب ساحة ساعة البرج قديما، استدل على العنوان الأجمل ونسيت ما كنت قادمة من أجله، لم اكن اعرف أن لبيروت كل هذا الجمال، وكل هذه الطقوس في ابرز مفاتنها. وحين تجلت هذه المناظر أمام عيني، زرفت دمعة فرح وقلت: هل كنا نستاهل كل الذي حل بنا؟ هل تعلمنا كيف يجب ان لا نتباعد في ما بيننا، نحن الذين تقاتلنا؟ ها نحن اليوم نتفرج على جمال ما فقدناه، بعد ان دفعنا الثمن كبيرا. وكأن ذاكرتنا تعيدنا الى مكان ما في أعماقنا وتحاكينا بصدق عميق وبمرارة أعمق}.
ما نراه في الوسط التجاري لبيروت ليس كله حقيقة بل انه اعادة صياغة جديدة للمدينة كلها، اذا ما عرفنا بأن كل الاسواق الاخرى شبه ميتة باتجاه حياة هذا الوسط مناطق اخرى عرفت الحرمان والعزلة على حساب هذا القلب الجديد، فمنتجعات ومطاعم اخرى في مناطق مثل الروشة، وجونيه، وجبل لبنان بدأت تقفل ابوابها باتجاه الفتح الجديد الذي حدث هنا. وولد من المكان بقعة متصاهرة يصعب فك الغازها، فك تعرف الاجنبي من اللبناني من العربي، كله في امتداد واحد لهدف واحد تقضيه وقت نهاري ملىء بالحركة في عز الليل الحالك المضيء بأنوار ملونة.
يقول أحمد عيد:
{هذا الوسط الانيق اليوم لا يشبه الوسط بالامس حيث باعة الخضار والفاكهة، واصوات المتجولين بالبضائع يملأ ساحات البرج وسوق آياس وسوق الحدادين والنحاسين والبرغوت، كان الوسط لعامة الناس وصار لنخبها، كان حركة الطبقة الوسطى صار حركة المال واصحاب النفوذ والسطوة كان وكان... واصبح، لكن ما زالت ساحة البرج تدق كما في السابق بعد ان اختفى صوتها لاجيال تعلن ولادة جديدة بصوت جديد فيه الصمت المبرح الذي لا يعبر عن حالة البلد في اماكن اخرى حيث الفقر والعوز، وصارت الوسط المنطقة المستعصية الا لأصحاب الاثواب الانيقة، فكل شيء هنا له ثمن حتى الفرجة، وكأننا في حلم محروق بالابيض والاسود واصبح بالالوان، ولكن الالوان المندثرة في شعلة نار احرقت الماضي واعادت الينا ذاتنا بروح جديدة دفعنا ثمنها من قوتنا وحياتنا وعمرنا، وبقي لنا الوطن والوسط مكانا نتباهى به امام الاجانب لنقول لهم نحن قادرون على فتح ذراعنا لكم، وتقديم افضل ما تشتهون، لكن يا ترى هل تصح الحقيقة وتصبح بيروت الوسط تعبر عن كافة ابنائها المحرومين في مناطق مهملة او انها الواحة المغلفة بالبريق لتحجب الرؤية عن اماكن تحتاج مد اليد اليها وتصبح بيروت واحدة متكاملة متشابهة دون فرز اجتماعي ومالي. وتصبح مدينتنا عنوانا لتنفس الهواء النقي بعد ان لوثها الغبار وجدران الاسمنت المشوهة.