أسرار بيروت التي يعرفها الجميع!
مقال من جريدة العالم العربي الصادرة في كاليفورنيا
في بيروت.. لا تقل إنك جئت لتري الناس، وإنما عش بينهم، شاهد وراقب ما يحدث في الصباح والمساء، وأيضا في جوف الليل، إنها مدينة خرجت من رحم الحرب والدمار، ولكنها أبقت علي جمالها وسحرها، ومع الجمال والسحر ظلت بيروت امرأة جميلة لا تنام، ولا تتذكر نهر الدم الذي فاض علي ثوبها.. إنه السر الذي لن تكتشفه إلا إذا جلست معها ذات ليلة وهذا ما فعلناه. لم تستغرق المسألة الزمنية منذ هبوط الطائرة وحتي خروجنا إلي أبواب المطار الخارجية سوي عدة دقائق حيث اتسم المطار بالدقة والنظام وسرعة إنهاء الإجراءات.
وفي الطريق بدا واضحا أنها الفنادق القديمة المشهورة أعيد تجديدها وتعميرها وهي المباني التي ترسم ملامح بيروت وكأنها لوحات في معرض فني مفتوح. دقائق قليلة وكنا قد وصلنا إلي الفندق في وسط المدينة حيث قلب بيروت النابض ومشروع إعادة إعمار الوسط التجاري علي مساحة مليون وثمانمائة ألف متر مربع تم فيه إعادة وترميم وتجديد الأبنية وإعادة إنشاء منطقة الأسواق وذلك علي مراحل ثلاث، وكان هذا المركز التجاري والإداري للبنان في وسط العاصمة مسرحا للتجاريين لأكثر من خمسة عشر عاما مما خلف دمارا شبه كامل للبنية الأساسية والتحتية، وتعقيدات كبيرة من حقوق الملكيات والمستأجرين بالإضافة إلي مشكلات بيئية وصحية، وقد وصفت ورشة إعادة الإعمار بأنها أكبر ورشة في الشرق الأوسط وشملت الفنادق والجسور والطرق والمكاتب والمجتمعات السكنية.
اجتازت بيروت إذن المحنة التي ألمت بها طيلة عقد ونصف من الزمن واستحقت عن جدارة لقب المدينة التي تأبي أن تزول ورغم أن قسما كبيرا من بيروت قد دمر تماما بفعل الحرب إلا أن الغريب في الأمر أن هناك شارعين لم يتأثرا بهذا الدمار وهما شارع البنوك وشارع الحمرا، اللذان لم تمسهما رصاصة أو قذيفة ربما لأن التجارة تشكل جزءا من طبيعة البيروتيين الذين اكتشفوا منذ القدم أهمية موقع مدينتهم المرفئية كمجال التقاء بين الشرق والغرب يتمتع بخبرات تسهم في إنجاح المبادرات التجارية علي اختلافها فغدت بيروت مركزا ماليا وتجاريا وصناعيا مرموقا يتعاطي جميع النشاطات المالية والخدمات المصرفية.
أما الشارع الآخر الذي لم يتأثر بطلقات الرصاص أو قذائف الهاون فهو شارع الحمرا والذي ينفرد بطابع اجتماعي خاص ورمز إلي السهر والحياة ويجمع بين المتناقضات الجدة، والطرافة، الطبيعة والغرابة، الرصانة والخفة، الالتزام والحرية، الغني والفقر، النظام والفوضي، الهدوء والاضطراب، هذا الشارع يقع في قلب مدينة بيروت، ويلتقي فيه الجميع، رجل المال والوزير السابق، والوزير اللاحق، والموظف والعامل، ونظيره المتقاعد والصحافي الناجح وزميله الفاشل. وشارع الحمرا الذي يتلألأ سابحا في الأضواء ويمزج ليله بنهاره له حكاية خاصة يرويها وزير السياحة اللبناني الدكتور كرم كرم، فيقول: بدأت هذه الحكاية في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي، حينما تنازع بنو ثلحوق الدروز، مع بني الحمرا المسلمين الذين كانوا يترددون علي بيروت لبيع غلالهم ومحاصيلهم الزراعية ونتيجة لهذا النزاع اضطر بنو ثلحوق إلي النزوح عن مساكنهم في رأس بيروت، المنطقة التي كانت تعرف في عهده باسم جرن الدب، والتحقوا بالجبل تاركين أراضيهم ومنازلهم لبني الحمرا الذين حلوا مكانهم ونسبت المنطقة من يومها إليهم وعرفت باسم كرم الحمرا وذهب اسم جرن الدب إلي غير رجعة.
وحينما تتجول في شارع الحمرا تجده مجتمعا قائما بذاته وعالما مستقلا وهذا ما جعل التساؤلات تدور في ذهني كيف يعيش الناس في هذا الشارع؟! ولماذا لا تهدأ الحركة فيه؟! من شروق الشمس إلي غروبها، ومن غروبها إلي شروقها في اليوم التالي حتي لكأن الشمس لا يعنيها دوران الأرض من حولها، وتستمر الحياة فيه بتلاحق الحلقات مع شلال دافق من الناس الذين لا يتعبون من التعب، ولا يرتاحون من الراحة؟! إنه الشارع الذي لا تأخذ فيه بيروت سنة ولا نوم. الغريب أن الشارع يحفل أيضا بعدد وافر من المقاهي التي كانت تجذب المثقفين والفنانين والكتاب والشعراء إلي محلات تبيع الشاورما بعد أن انقرضت إلي حد كبير المكتبات التي كانت تنتشر في الماضي علي جانبيه.
وفي دراسة نشرت أخيرا في بيروت يتجسد مدي التراجع الكبير لدور النشر في حياة اللبنانيين حيث انتفت الحاجة إلي المكاتب داخل المنزل لدي الأغلبية منهم، وبالتالي فهي إن وجدت يمكن اعتبارها ضمن الديكور العام للصالونات، ومثل غيرها من التحف واللوحات التي تزين جدران المنزل وأروقته، وأظهرت هذه الدراسة أن هناك قارئا واحدا بين كل مائة لبناني، وتبقي كتب السحر والشعوذة والأبراج وفن الطبخ في رأس قائمة الكتب الرائجة في الساحة اللبنانية، حتي أن أحد المشاركين في الاستفتاء اعتبر أن جبران خليل جبران هو سفير لبنان في واشنطن!!! وآخر أكد أن نجيب محفوظ هو أشهر ممثلي السينما العربية!!
ويؤكد اللبنانيون أنك شخص غير طبيعي إذا جئت إلي هناك دون أن تزور سوق الأحد أو سوق صبرا، فهم يقولون لك إن فقدت شيئا في لبنان فإن مكانا واحدا يمكنك أن تجده فيه هو سوق صبرا الذي يتفرد بوضع غريب فهو علي هامش القانون دون أن يكون مطلوبا أمام العدالة! الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود، هكذا يوصف السوق الذي يحوي كل شيء وأي شيء يمكنك أن تجد فيه اسطوانة مفقودة لأم كلثوم، كما يمكنك أن تجد فيه حذاء فقدته يوما علي شاطيء البحر، تجار السوق يباهون بما يفعلون ولا يترددون بالمجاهرة بالمصدر غير القانوني لبضاعتهم، حيث يقولون إنهم يجنون أرباحا جيدة إذ يتقاضون ثمن الأغراض التي لم يشتروها في الأساس، ولا تكلفهم ضرائب عليهم حين يفترشون الأرض والطريق لعرض المقتنيات المسروقة.
وحينما سألت أحدهم عن المعروضات قال إن الكثيرين يعمدون إلي سرقة ما يبيعونه أو يتسولونه والدليل علي ذلك أن جميع البضائع المعروضة تتألف من ثياب رثة وأحذية مستعملة وغيرها من البضائع المتنوعة التي لا تجد تناسقا فيما بينها وحينما تجولت في السوق وجدت الأطفال الصغار يهربون خوفا من السؤال باستثناء فتاة صغيرة أكدت لي أنها تعيش في منطقة صبرا منذ أكثر من عشر سنوات، وأن هذه السوق قديمة تألفت منذ بدايتها من عمال ينتمون إلي دول عربية أتوا إلي لبنان قاصدين العمل فما كان منهم إلا المكوث في منطقة صبرا وافتراش طرقاتها لعرض أنواع مختلفة من البضائع التي يجلبونها من بلادهم.