أحلام
ذات يوم من شهر مايو " أيار " 1978
كان طارق يجلس في مقهى ومطعم نصر المطل على الروشة ، كان الجرسون يرفع من أمامه
الأطباق الفارغة حين حانت منه التفاتة إلى المائدة المجاورة ، فوجد عليها امرأة في
الثلاثينات الأخيرة من العمر على وجهها ملامح عز و جمال وأناقة ومعها طفلان ، اقترب
أحدهما منه وكان صغيرا فتعثر الطفل ووقع على الأرض ، فنهض طارق يرفع الصبي و ينفض
له ثيابه ويوصله إلى أمه التي شكرته و دعته بكل أدب لمشاركتها فنجان قهوة . فشكرها
وجلس بجوارها ، وهو يقول ( أولادك حلوين ) فضحكت وهي تقول ( قصدك يعني مش طالعين
لأمهم ) فارتبك وهو يقول معتذرا ( بالعكس يا مدام . أنتي حلوة كتير ) .
وهكذا دار الحديث بينهما . حو ل الأولاد و الجمال و الزواج و الروشة و المطعم الذي يجلسان فيه ، إذ فهم منها أنها كثيرا ما تتردد على هذا المطعم لأنه كما تقول مطعم يغسل رجليه في البحر، و الخدم فيه يحبون الأولاد ويلاطفونهم . طلبا فنجانين آخرين من القهوة و طلبت " بوظة " للأولاد ، بعد فترة نظرت إلى ساعتها و نهضت وهي تقول ( نسينا الوقت ، صارت الساعة 11 لازم الأولاد يناموا ) نهض طارق و عرض عليها أن يوصلها إلى البيت بسيارته فوافقت و هي تشكره . وضع الأولاد في المقعد الخلفي من السيارة بينما ركبت هي إلى جواره فانطلق بها إلى بيتها .
توقف أمام العمارة . و فتح لها الباب ثم فتح الباب الخلفي ، وحمل الصغير بين يديه ومشى معها إلى مدخل العمارة يوصلها به أمام باب الشقة أخرجت المفتاح و فتحت الباب ودعته ليشرب فنجان قهوة .
بعد أن وضعت الأولاد في غرفة نومهم صنعت إبريقا من القهوة و أحضرت فنجانين و جلست تصب و يشربان ، شقة فاخرة ، وأثاثها فاخر و المرأة تبدو غنية ، وحين سألها عن زوجها أخبرته بأنه رجل أعمال كبير في نيجيريا وهي لا تطيق الحياة في الصيف هناك ، لذلك تفضل المجيء إلى بيروت أو أوروبا ، دهش طارق و تململ على كرسيه بشكل ملفت فظهر المسدس تحت حزامه ، فسألته عنه دون أن يبدو عليها الخوف ، فقال لها بأنه يحمله تحسبا وهو مسدس مرخص فردت بسؤال آخر ومن أين حصلت على الترخيص فأجابها ( من منظمة الصاعقة ) فردت بسؤال آخر ( و هل تعمل معهم ) فقال ( لا ، ولكنهم أصحابي ، جميع المسئولين فيها أصحابي ) ، كانت تسأله و إمارات الإعجاب بشخصيته تبدو على قسمات وجهها الجميل ، فانتهز الفرصة و أخذ يحدثها عن الأعمال التي قوم بها مقاتلو الصاعقة و المساعدات القيمة و النصائح لتي يقدمها لهم محاولا جذبها إليه بتلميع صورته وشخصيته التي يعرف في أعماق نفسه أنها شخصية أذلها و سحقها الرسام الأرمني و سعيد و غيرهما .
بالمسدس و بهذه المرأة الثلاثينية أحس طارق بأنه يستعيد شيئا من رجولته المهدورة . طال الوقت وجاوزت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل فقالت له أحلام :
Ø طارق ، أنا معجبة بك كثيرا وهذا رقم هاتفي ، أرجوك أن تتصل بي في أي وقت تشاء دعنا نلتقي ونتحدث فحديثك شيق وجميل .
Ø وأنتي أيضا جميلة يا ست أحلام وتأكدي أنني سأتصل بك .
على الباب قبلته و هي تودعه قبلة فيها ألف معنى و ألف إشارة فانتفخت أوداجه واحمر وجهه ، وكان يشهق بطعم الرجولة الذي تدفق فجأة في أعماقه بفضل هذه المرأة .
قاد سيارته بجنون ، و هو يفكر في أحلام هذه المرأة التي دخلت حياته هكذا بالصدفة وبلا مقدمات لتعيد له شيئا من وهج الرجولة المفقودة عنده ، و صمم و هو في غمرة هذه الأفكار ألا يتصل بها لا في الغد ولا بعده حتى يشعرها بشخصيته ويجعلها هي تسعى إليه وتتمسك به فهي الحلم الذي ضاع منه على سرير الرسام اللبناني وفيلا سعيد ، و لا أقل من أن يكون هو فارسا لأحلام في غياب الزوج البعيد في نيجيريا .
و يوم اتصلت هي به بعد أسبوع شعر بأن خطته نجحت أن الصيد الثمين وقع . عاتبته فاحتج بكثر ة العمل وانشغاله مع الشباب في نسور الثورة لكنه وعدها بالاتصال واللقاء .
و بينما هو يتناول العشاء في مطعم صغير في نهاية شارع الحمراء بنزلة أبو طالب جاءه النادل يخبره بأن هناك شخصا على الهاتف يريد أن يتحدث إليه اسمه أحمد ، فنهض فإذا هو صديقه الذي كان يعمل قبل الحرب في مسبح فندق السان جورج و بعد الحرب سافر إلى لندن حيث عمل هناك في عدة مهن بسيطة يوصل الطلبات إلى البيوت وينظفها ، وكان قبل سفره إلى لندن قد التقى بطارق أكثر من مرة عند الرسام الأرمني .
فوجئ طارق بعودة أحمد من لندن وفوجئ به كيف حصل على هاتف المطعم فأخبره هذا بأنه اتصل به على البيت فأخبرته أخته أنه في هذا المطعم و هو يريد أن يسهرا معا ، سأله طارق و أين أنت الآن فقال أحمد أنا في بيت إحدى الصديقات و هذا هو العنوان تعال فورا ، وصعق طارق حين ذكر له أحمد العنوان لقد كان عنوان أحلام ، و ليتأكد من ذلك قال لأحمد ( بيت مين ) فرد احمد ( بيت الست أحلام ) .
و لم يكمل طارق عشاءه دفع قيمة ما طلب وخرج على الفور و طار إلى بيت أحلام حيث كانت هناك مفاجأة في انتظاره .
الفصل الثاني
المصيدة
وصل إلى شقة أحلام ، و ما أن قرع
الجرس حتى انشق الباب عنها فقالت مرحبة : " أهلا " . رآه أحمد من بعيد فهرول من
الصالون يعانقه و يعرفه على أحلام . وكان طارق قد لمح أنها لا تريد أن يعرف أحمد
أنها على معرفة معه .
جلس أحمد بجواره ، يحدثه عن مغامراته العاطفية في لندن ، وعن الأثرياء الذين التقاهم هناك وتعرف بهم . كان طارق ممتعضا من حديث احمد ، يسترق النظرات إلى أحلام معجبا بجمالها وقوة شخصيتها إلى أن قال : أحد الأثرياء و اسمه فلان ، قال لي في لندن : إذا جمعتني بطارق سأعطيك 5000 دولار هنا انتبه طارق مستفسرا فاسترد أحمد في ثرثرته موضحا يقول :
Ø انه رآك في " ملهى البلواب " .
تفاهة أحمد جعلت طارق يتساءل بينه وبين نفسه عن السر الذي جمع بين أحلام وهذا المخلوق الجاهل، كما جعلته يتساءل عن الكيفية التي يتعرف بها أحمد على هذا العدد الكبير من الأثرياء و كأنما ظهرت تساؤلاته على صفحة وجهه .
فأدركت أحلام ما يدور في خاطره فقالت :
Ø كان أحمد قبل أن يسافر إلى لندن يأتي دائما لتنظيف البيت هنا ، و قضاء حاجاتنا من السوق و قد أصبح جزءا من العائلة فقد لحق بنا إلى نيجيريا حيث عمل في بيتنا هناك وكذلك في بيتنا في لندن .
ترى هل هذه هي
الحقيقة ؟ أم هناك رابطا ما يجمع هذا ( المشبوه ) بهذه المرأة وبأولئك الأغنياء ؟
تفسير أحلام أدى غرضه ، فبعد أن انفرط عقد السهرة بأسبوع اتصل طارق بأحلام التي
دعته إلى العشاء في منزلها فذهب وتعشى ونام ليلته هناك . كان شعوره في تلك الليلة
فورا برجولته .
فها هو يقفز فوق شذوذه ، و تعجب به أحلام كرجل ، فلا يخبرها عن شذوذه بالطبع و لم يدر في خلد الفتى أن أحلام تعرف عنه كل شيء من أحمد ، صارت أحلام بالنسبة إليه حلما و متنفسا رجوليا له ، يستعيض به عن ماضيه الشاذ مع الرسام والثري سعيد . وذات سهرة في بيت أحلام، وكان هنالك أخوها إبراهيم الذي يعمل مدرسا سأل إبراهيم طارق :
Ø إلى أي عائلة تنتمي ؟
ورد طارق :
Ø عائلة الحمدان .
ضحك إبراهيم وسرح ، فاستغرب طارق ضحكته و شعر بالإهانة فقال له :
Ø و ما الذي يضحكك ؟
فقال إبراهيم :
Ø لا تغضب ، ولكنني تذكرت أن أحلام اتهمت من قبل بأنها عميلة للمخابرات الإسرائيلية ، كما اتهم معها آنذاك رجل من عائلة الحمدان .
دهش طارق إلى أحلام مستوضحا بانفعال شديد ، فهدأت من روعه بقولها :
Ø لا تصدقه ، إنه يهذي . فهو ثمل لا يعرف ماذا يقول :
لم يقتنع طارق بقولها ، وظل كلام إبراهيم يدور في نفسه إلى أن فاتحها بعد يومين من تلك الأمسية قائلا :
Ø أحلام لقد قلت لي أن إبراهيم ثمل ، لكن الثمل غالبا ما يقول الحقيقة . فما قصة المخابرات الإسرائيلية ؟
و ردت أحلام تطمئنه:
Ø القصة سخيفة . كنت على علاقة صداقة مع شخص من عائلة الحمدان فعلا ، كان يملك ملهى " الكاسبا " في فندق " الكومودور " في الستينات و تبين أنه عميل للمخابرات الإسرائيلية فسجن وبعد خروجه من السجن غادر لبنان ، ولم أسمع عنه شيئا منذ ذلك الوقت .
Ø هل هذا كل شيء ؟
Ø نعم و لماذا أكذب عليك ؟
اكتفى طارق بهذا التفسير ليصدق أحلام فم يكن ليهتم من قريب أو بعيد بالمخابرات الإسرائيلية ، كل ما كان يريده امرأة جميلة و سرير دافئ يكفلان له وضعا مزيفا يعلو به فوق حماة الشذوذ الذي يعاني منه .
كان بحاجة إليها ، كما ظن أنها هي الأخرى بحاجة إليه لغياب زوجها الطويل في إفريقيا الذي يفضل السوداوات ويلعب القمار في لندن علما بان هذا هو الزوج الثاني لها وقد سبق وتزوجت هي الأخرى من رجل يعمل في نيجيريا .
لكن سعادة طارق بأحلام لم تدم طويلا ،فقد سافرت إلى لندن بعد أن أعطته عنوانها هناك ورقم هاتفها. شعر بالفراغ والألم في غيابها، فصار يقضي وقتاً طويلاً معها على الهاتف.
تعذب ، وفقد طعم الحياة ، وتمنى لو أن في مقدوره السفر إلى لندن والحياة معها وبينما كان يحادثها على الهاتف في أحد الأيام يشكو لها حبه وعذابه ، قالت له فجأة وبلا مقدمات.
ولا يهمك. غداً سأرسل إليك تذكرة سفر بيروت- لندن- بيروت. وما عليك إلا أن تحصل على تأشيرة دخول من السفارة البريطانية وتأتي ، وأنا سأرتب كل شيء من هنا.
كان يطير من الفرح، ولم يصدق، إنها تحبه كما يحبها وأكثر، أخبر الأهل بأنه سيذهب إلى لندن للتجارة والعمل ، وافق الوالدان وجاءت التذاكر وحصل على التأشيرة ، وما هو الآن في مطار بيروت يستعد للركوب في طائرة " الميدل ايست" إلى " عاصمة الضباب".
في مطار هيثرو كانت آمال ابنة أحلام تنتظره بابتسامة عريضة دافئة ذكرته بذلك اليوم الذي أمضياه معا في بيروت حين جاءت من نيجيريا إثر خلاف لها مع زوجها ، فقد سكنت مع والدتها في الشقة و تعرفت على طارق هناك وذات ليلة بينما كان يقف أمام مبنى جريدة " النهار" ينتظره والده ، مرت أمال بسيارتها فلمحته ولمحها فتوقفت وصعد معها إلى السيارة بعد أن أخبر والده بأنه قد يتأخر هذه الليلة.
كانت آمال ليلتها في حالة نفسية سيئة ، سألها؟
Ø إلى أين أنت ذاهبة في هذه الساعة المتأخرة من الليل ؟
Ø فقالت: لا مكان محدد. أريد فقط أن أتجول في الشوارع هكذا بلا هدف . وليتك ترافقني. تعال نقضي الليلة في فندق " الكومودور" معاً.
بلع ريقه وهو يناول موظف الاستقبال مئة ليرة ليخصص لهما غرفة حيث ناما حتى الصباح .
وحين أفاق صباح اليوم التالي كان طارق يشعر بأن رجولته قد ردت إليه أو معظمها على الأقل.
كان أكثر ما يهمه أن يثبت رجولته لامرأة ،كأنما لثباتها لامرأة يثبتها أمام نفسه وضميره.
وطار طارق إلى لندن بعد ذلك وكانت آمال في انتظاره.