كانت باريس في ذلك الوقت من صيف 1960 تضج بالحياة والحركة والجمال... حيث يرتادها مشاهير العالم بحثاً عن الجديد في عالم الأزياء... أو لالتماس الهدوء بين ربوعها... وتنتشر بشوارعها شتى الوجوه والألوان والغرائب... فهي عاصمة النور في أوروبا... ومأوى الفن ... وملاذ الصعاليك... وهواة تصيد الفرص على مقاهيها... وايضاً... وكر آمن لصائدي الجواسيس والخونة لكل أجهزة المخابرات.

نزل بهجت حمدان بفندق "ستار" بوسط المدينة .. وهو فندق بسيط يرتاده شباب المغتربين – وغالبيتهم أفارقة وآسيويون – لرخص سعره ولقربه من قلب العاصمة حيث المطاعم الرخيصة والمقاهي ... وسهولة المواصلات.

ومنذ وطئ بهجت فرنسا ضايقته مشكلة اللغة... فهو يتكلم الألمانية بطلاقة وبعض الانجليزية... أما الفرنسية فكان يجهل مفرداتها البسيطة التي لا تمكنه من التحرك بثقة وسط أناس يرفضون التعامل بغير لغتهم.

وفي اليوم التالي فوجئ بموظف الاستقبال يرحب به باهتمام... وتحدث معه بالعربية السليمة... واصفاً له السنوات التي قضاها في بورسعيد موظفاً بإحدى شركات الملاحة حتى غادرها إبان أزمة 1956.

كان الفرنسي اليهودي يعمل مخبراً لرجال الموساد في باريس... تنحصر مهمته في التعرف على العرب النازحين الباحثين عن عمل... أو أولئك الذين قدموا للسياحة أو الدراسة ... ويتولى بعد ذلك تقديمهم – كل حسب حالته – إلى رجال الموساد ... فلما اطلع على ظروف بهجت أدرك بأنه صيد سهل ... فهو يمر بأزمة مالية ويواجه مشاكل مع زوجته الألمانية بسببها... فضلاً عن وظيفته السابقة في مصر التي قربته من الكثيرين من رجالاتها في مختلف المواقع.

لذلك ... رتب له دعوة للعشاء بأحد المطاعم الراقية... وهنا قدمه إلى صديقه "جورج سيمون" ضابط الموساد الذي ظهر بشخصية رجل الأعمال...

استشعر بهجت الأمان بعض الشيء... واطمأن باله وهو يتجاذب بالألمانية أطراف الحديث مع جورج سيمون... وطال الحديث بينهما في مجالات كثيرة تخص أحوال مصر اقتصادياً وتجارياً... حتى تطرقا إلى مشروع "الخمس سنوات" وفوجئ سيمون بمحدثه يخبره بأنه يمتلك ملفات كاملة عن المشروع يحتفظ بها في القاهرة... وكذا تقارير اقتصادية خطيرة تدرسها الحكومة المصرية خاصة بوزارة الاسكان.

وبعد عدة لقاءات وسهرات في النوادي الليلية – بأموال الموساد بالطبع – قام جورج سيمون أثناءها بعملية "تشريح" متكاملة لفريسته... من حيث ميوله ورغباته ونقاط ضعفه... فتبين له أن الشاب المصري المفلس "يعبد القرش" .. ولديه أسباب قوية لأن يطرق كل السبل من أج الحصول على المال.

لذلك لم يكن من الصعب استقطابه .. وإحاطته بشعاعات من أمل في العمل والثراء... وجاء الرد حاسماً من تل أبيب: "مطلوب تجنيده وبأي ثمن".

وكان الثمن زهيداً جداً عندما سلمه عميل الموساد ألفاً وخمسمائة فرنك فرنسي .. على وعد بإيجاد عمل محترم له إذا ما كتب تقريراً وافياً عن مشروع "الخمس سنوات"... والخطوات التي تمت بشأنه... والمعوقات التي تواجه مصر في تنفيذ سياساتها الاقتصادية... وكانت هذه الخطة أولى محاولات تجنيد بهجت حمدان.

إن عملية تجنيد جاسوس جديد تعد من أكثر النشاطات المخابراتية صعوبة وخطورة... ومنذ اللحظة الأولى في هذه العملية يجد صائد الجواسيس نفسه في موقف صعب... فالشخص الذي اختاره لتجنيده ربما يفطن إلى الحيلة ... وبذلك فقد كشف عن شخصيته له قبلما يتأكد من استجابته.

لذلك... فالمهارة هنا لها الدور الأساسي في عملية تجنيد الجواسيس الجدد.. بمعنى أن العميل يجب أن يكون واثقاً من تقديره للموقف... وأن يكون حذراً للغاية حتى يتمكن من التقهقر في الوقت المناسب إذا ما حالفه الفشل..

ولكي يضمن جورج سيمون إحكام حلقته حول بهجت حمدان ... رتب له لقاءً حاراً في "مصيدة العسل" مع سكرتيرته المتفجرة الأنوثة... وهذا الأسلوب تميزت به الموساد عن سائر أجهزة المخابرات للسيطرة على المطلوب تجنيدهم .. وتفننت في استخدامه بتوسع ...حيث يتم تصوير هؤلاء في أوضاع شاذة .. وتسجيل حوارات سياسية تدينهم ... فتنهار أعصابهم حين مواجهتهم ولا يستطيعون الخلاص أو الفكاك.

وما إن ووجه بهجت بالأفلام العارية التي تحوي مشاهد مؤسفة .. وأحاديث مليئة بالسباب للعرب وقادتهم... حتى بهت الصياد وتفصد عرقاً ... نعم .. بهت لأنه فوجئ بما لم يتوقعه أن يحدث له من قبل.

لقد صرخ بهجت حمدان في وجهه .

الصفقة الناجحة

كان اللعب قد أصبح مكشوفاً بين الصياد والفريسة... وكانت الخطة تقتضي أولا أن يسافر بهجت إلى فرانكفورت حيث الانطلاقة من هناك ... بعد ذلك يتم عمل "ساتر" يختفي وراءه.

وفي فرانكفورت استقر الجاسوس الجديد بأحد فنادقها... وأرسل إلى زوجته إنجريد فأسرعت اليه سعيدة بقدومه... وأنبأها بأنه التقى في باريس برجل أعمال كبير وعده بإيجاد عمل له في بورصة الأوراق المالية... ومكثا معاً عدة أيام في نزهات خلوية صافية ... إلى أن زاره "صموئيل بوتا" الخبير في أعمال البورصة والتجارة الدولية.

بدأ بوتا في تعليم بهجت كل ما يتصل بأعمال البورصة ودراسة السوق المصرفية، وعرفّه بالعديد من رجال الأعمال وهيأ له المناخ الملائم لكي يستوعب هذا النوع من العمل الذي يتطلب قدراً عالياً من الذكاء والمهارة ... وناضل ضابط المخابرات الاسرائيلية من أجل خلق رجل أعمال مصري ناجح .. للدفع به في الوقت المناسب إلى مصر ... فيتعرف على علية القوم ورجال الأعمال بها... مما يتيح له التغلغل بين الأوساط الراقية وذوي المناصب الحساسة.

إن المخابرات الإسرائيلية لا تصرف الآلاف من نقودها هباءً... بل تدرك بحق أن المنافع التي ستعود عليها بعد ذلك ستكون رائعة.

واستمراراً لخطة صنع جاسوس محترف ... انتقل بهجت إلى مدينة "بريمن" حيث قدمه بوتا للعديد من أصحاب شركات البترول والتجارة... وعمل لديهم لبعض الوقت فاكتسب خبرات هائلة... وصداقات متشعبة بصفته مواطن الماني متزوج من ألمانية.

وفي عام 1967، تأكد للإسرائيليين أن "الجاسوس النائم" بهجت حمدان أصبح ذا دراسة وعلم كبيرين بأمور التجارة الدولية... وأعمال البورصة.. تعضده جنسيته الألمانية في اقتحام مجالات التجارة والتصدير في أسواق الشرق الأوسط دون أية شكوك أو صعوبات تعترض طريقه.

وابتدأ عمله التجسسي بأن أرسل لشركة "مصر للبترول" يعرض عليها استيراد شحنات من البترول المصري بصفته مندوباً لإحدى الشركات الألمانية... وسافر إلى القاهرة ليدرس العرض مع الشركة ..

كانت نكسة يونيو قد تركت آثارها على شتى النشاطات في مصر .. وحطمت المناخ العام شعبياً وعسكرياً وسياسياً ... وفي القاهرة أخبره والده بأنه مني بخسارة فادحة في تجارته ... فأغدق بهجت على أسرته بالهدايا الثمينة في كل مرة يجيء فيها إلى القاهرة للتفاوض مع الشركة.

وبرغم فشله في عقد صفقة واحدة مع مصر للبترول بسبب طمعه في نسبة عمولة عالية .. اتجه – بتوجيه من بوتا – إلى تجارة السلاح ... فدرس هذا المجال باستفاضة ...وأخذ يبحث كيفية تقديم عروض للدول العربية لبيعها صفقات أسلحة ... خاصة .. وظروف المنطقة المشتعلة بالصراع تتطلب ذلك.

أعجبته الفكرة تماماً... وابتدأ بالأردن، لكنه فشل في أولى محاولاته لأن الأردن لا يبتاع السلاح عن طريق وسطاء. فعاد إلى القاهرة يحدوه الأمل في النجاح هذه المرة... وتقدم إلى المسؤولين بعدة عروض لتوريد بعض المهمات والمعدات اللازمة لقطاعات هامة في الدولة... وفوجئ بموافقة مبدئية على أحد العروض... ولكن طلب منه تأكيد جدية العرض باستيفاء بقية الأوراق... ومنها سابقة الأعمال.

كان بوتا – وهو الضابط الخبير – قد احترز جيداً في عمل "الساتر" للجاسوس المتحمس... وقام بتكوين شركة مساهمة تحمل اسم "نورد باو" للأعمال الإنشائية والتوريدات ... مديرها بهجت حمدان ورئيس مجلس إدارتها "ألبرت فيزر" ضابط المخابرات الاسرائيلي الذي يحمل جواز سفر ألماني... وكان هذا الساتر مأمن لبهجت ونقطة ارتكاز لتثبيت أقدامه... بعيداً عن شكوك رجال المخابرات المصرية الذين يتشككون في كل شيء...

وبناء عليه ... سافر بهجت حمدان إلى ألمانيا لإطلاع بوتا على سير الأمور... وكان على ثقة من نجاح الصفقة التي سيربح من ورائها عشرات الآلاف... فهنأه بوتا على الصفقة الجديدة وأمده بسابقة أعمال وتوريدات مزورة حملها إلى الحكومة المصرية... واصطحب معه ألبرت فيزر لمناقشة الأسعار المقدمة.

وفي القاهرة طلب المسؤولون منهما عينات ومبلغ 20 ألف دولار كتأمين ... وتمت الصفقة في نجاح أذهل الاسرائيليين... ذلك لأن عمليهم المدرب نال ثقة المسؤولين المصريين على اعتبار أنه مصري يسعى لخدمة وطنه.