الشيخ عبد الله العلايلي
في محلة من مدينة بيروت العتيقة كانت تُعرف باسم الثكنات وهي القسم الواقع اليوم بين بناية البريد المركزي والسراي الكبير ولد الشيخ عبد الله العلايلي في 20 تشرين الثاني سنة 1914م.
وأسرة العلايلي قديمة العهد ببيروت، فهي ترقى إلى القرن الحادي عشر الهجري كما تُثبت شواهد القبور التي عُثر عليها اتفاقاً في حفريات منطقة الريفولي، حيث كانت مقبرة الخارجة، وهي محفوظة لدى آل العلايلي.
أُسرة العلايلي أخذت إسمها من نسبة أجدادها إلى بلدة علايا الكائنة بالأناضول في تركيا والمعروف أن الأتراك يضيفون إلى آخر اسم البلد المقطع (لي) للنسبة إليه، فتكون أسرة العلايلي قد حملت إسمها من نسبة أجدادها إلى البلدة المذكورة التي قد يكونون من أهاليها بالأصل، وآل العلايلي من الأسر القديمة والعريقة في بيروت لها حيّز مرموق في الأوساط التجاريّة، وقد ساهم بعض أفرادها في عمارة المساجد، من هؤلاء الحاج علي العلايلي عمّ الشيخ عبد الله العلايلي الذي وقف أرضاً له في محلة رأس النبع الشرقي وهي التي بُني عليها جامع الحسنين المعروف بجامع العبيد أو الجامع الأبيض.
وللشيخ مختار العلايلي شقيق الشيخ عبد الله مكانة دينيّة محترمة وكان رحمه الله أميناً للإفتاء في لبنان حتى آخر عمره.
بدأ الشيخ عبد الله العلايلي نشأته الأولى في مدارس كانت أشبه بالكتاتيب، من ذلك كُتّاب المعلم عيسى كتوعة وكان قرب الجامع العمري الكبير، ومنه إنتقل إلى كُتّاب الشيخ نعمان الحنبلي الذي عُرف أيضاً باسم المدرسة السوريّة وكان في محلة الخندق الغميق.
إنتقل بعده إلى كُتّاب الشيخ مصطفى زهرة في منطقة زقاق البلاط .
وفي سنة 1920م ألتحق بمدرسة الحرج الابتدائيّة التابعة لجمعية المقاصد الخيريّة الإسلاميّة وكانت أبرز المدارس الإسلاميّة الأهليّة آنذاك. وظّل في هذه المدرسة حتى سنة 1923م.
وفي سنة 1924م توجه إلى الجامع الأزهر الشريف في القاهرة برفقة شقيقه الشيخ مختار وظّل يتابع الدراسة في هذا الجامع حتى سنة 1935م وأخذ عن الجلَّة من الشيوخ أمثال: الدسوقي العربي، ومحمد نجيب المطيعي، ويُوسُف الدجوي، وسيّد علي المرصفي، والسملوطي، وأحمد عيسى الشرقاوي، ومحمد العربي، وعفيف عثمان، وعلي محفوظ إلى كثرة كاثرة من عيون علماء ذلك العصر.
وفي سنة 1936م عاد الشيخ عبد الله العلايلي إلى مدينة بيروت وإنصرف للوعظ والإرشاد في الجامع العمري الكبير، وداوم على ذلك حوالى ثلاث سنوات. وكان في أثناء ذلك يطرح آراء حول قضايا إصلاحيّة في رسائل مثل:
1. المفتي والفتوى
2. الأوقاف
3. المحاكم الشرعيّة
وخلال دوامه على إلقاء الدروس في الجامع المذكور، إنصرف الشيخ عبد الله إلى إعداد كتابه المتميّز (مقدمة لدرس لغة العرب) الذي استقبلته أوساط العاملين في فقه اللغة العربيّة باهتمام كبير لما تضمنه من طروحات تنم عن تمكن الشيخ عبد الله من ناصية اللسان العربي والقدرة على تطوير مفردات اللغة العربيّة وفق ما تقتضيه علوم العصر وتقنياته المستحدثة.إن المخاضات السياسيّة والوطنيّة والقوميّة التي عاشتها البلاد العربيّة خلال الحرب العالميّة الثانية 1939–1945 وما بعدها كانت لها انعكاساتها في فكر الشيخ عبد الله العلايلي وعلى قلمه، وكذلك كانت حافزاً له على دخول معترك الحياة الحزبيّة ببيروت، لذلك ظهرت له عدة رسائل توجيهيّة واجتماعيّة وسياسيّة تحت عنوان (إني أتهم)، كما ساهم في وضع لوائح الأحزاب التي ظهرت آنذاك مثل :
· حزب النجّادة
· الحزب التقدمي الإشتراكي
· حزب البعث العربي الإشتراكي
ولقد لفت الشيخ عبد الله نظر المؤسسات العربيّة ومجامع اللغة العربيّة التي رأت الإفادة من علمه وفكره ونشاطه. ففي سنة 1952م انتدبته جامعة الدول العربيّة كمستشار عند طرح موضوع (الزكاة في الإسلام) وبدعوة من لجنة الثقافة التابعة للجامعة المذكورة برئاسة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين عُيّن الشيخ عبد الله العلايلي عضواً في اتحاد مجامع اللغة العربيّة الذي إنعقد في دمشق.
وفي سنة 1956م انتدبه اللواء فؤاد شهاب قائد الجيش اللبناني للمساهمة في وضع المعجم العسكري، للمصطلحات العسكريّة، وهي المهمة التي لازمها من عام 1956م إلى عام 1968م، وكانت حصيلتها أربعين ألف كلمة، وقد تولى الجيش اللبناني طباعة هذا المعجم الذي اعتمدت عليه جامعة الدول العربيّة عندما أرادت توحيد المصطلحات العسكريّة لجيوش الدول العربيّة الأعضاء.
وللشيخ عبد الله العلايلي العشرات من الكتب التي ألّفها في موضوعات مختلفة، بعضها في فقه اللغة العربيّة، وبعضها في المعاجم اللغويّة أهمها المنجد العربي، وكتب أخرى كثيرة تناول فيها شؤون المجتمع العربي اللبناني من خلال توجهاته الوطنيّة والسياسيّة.
ويمكن القول بأن هذه الكتب يمكن أن تعتبر لوحدها مكتبة قائمة بذاتها لتنوع مادتها وتعددها وكثرتها. ولو أردنا إحصاء جميع ما ألّف الشيخ عبد الله العلايلي لاقتضانا ذلك الصفحات الكثيرة، على أنه إذا أعجزنا هذا الإحصاء فإنه لا بّد لنا من التنويه ببعض الكتب التي استقطبت اهتمام أهل القلم، سواء في لبنان والبلاد العربيّة أو في الأوساط الأجنبيّة.
من بعض هذه المؤلفات للشيخ عبد الله العلالي:
· مقدمة لدرس لغة العرب ، طبع هذا الكتاب في المطبعة العصريّة في صيدا سنة 1938م، كان في البحث والتعليق والنقد لأهم الصحف آنذاك، من يوميّة وأسبوعيّة وشهريّة كالأهرام والمصري والبلاغ والدستور والرسالة والمقتطف والهلال ومجلة التربيّة الحديثة، وإهتم به إهتماماً خاصاً المستشرق الألماني الدكتور فيشر والمستشرق التشكوسلوفاكي الدكتور باول كراوس والباحث العراقي الأب أنستاس الكرملي وإسماعيل مظهر والشيخ عبد العزيز البشري وعلي الجارم إلى جمهرة أخرى من كبار العلماء الباحثين في ميدان فقه اللغة العربيّة وآدابها.
· دستور العرب القومي ، طبع هذا الكتاب المكتبة العصريّة في مصر لصاحبها إلياس أنطوان ألياس، وكان مصدراً لكثيرين من إهتموا ببحث القوميّة العربيّة من عرب وأجانب.
· المعجم الكبير ، طبع مطبعة الريحاني في بيروت سنة 1954م وهو يتألف من أربعة وعشرين مجلداً، كل مجلد يتألف من ستة أقسام، على أنه لم يصدر منه سوى أربعة أقسام من المجلّد الأول فقط.
· المرجع ، وهو معجم وسيط طبع دار المعجم ببيروت سنة 1963م.
· المعرّي ذلك المجهول ، طبع هذا الكتاب مجلة الأديب لصاحبها ألبير ديب وذلك سنة 1944م.
· الحزب بوتقة تصنع الأمة ، طبع مطبعة بعيون في بيروت سنة 1941م.
· تهذيب المقدمة اللغويّة ، بعناية الدكتور أحمد علي، منشورات دار النعمان ببيروت سنة 1968م.
وهناك كتب أخرى صنفها الشيخ عبد الله لم تزل مخطوطة مثل كتاب (مدخل لتفسير القرآن الكريم) وهو في جزءين كبيرين.
لم يكن للشعر سلطان مهم في الحياة الأدبيّة للشيخ عبد الله العلايلي، لذلك لم نعرف له ديواناً يضمّ منظوماته من القصائد على نحو ما هو مأثور عن الشعراء التقليديين الذين يلتزمون عمود الشعر في قصيدتهم وقافيتهم، إلا أن إنساناً في إهاب هذا الأديب الكبير والعالِم الفذّ لا بّد له من لفتات حرّى تعبّر عما يجيش به صدره من آلام قومه وآمالهم، لذلك نجد الشيخ عبد الله العلايلي يطلق بعض القصائد الوجدانيّة التي أخذت سبيلها إلى الظهور في مجموعتين اثنتين لا ثالث لهما، وهما:
1. رحلة إلى الخلد ، وهي ملهاةً على نسق المعراج، تقع في نحو ألف وخمسمائة بيت ترجم قسم منها إلى اللغة الفرنسيّة المستشرق إميل درمنغهام صاحب كتاب محمد.
2. من أجل لبنان ، قصائد دامية الحرف بيضاء الأمل نشرها سيمون عوّاد عند مؤسسة أ. بدران وشركاه للطباعة والنشر في بيروت وقد قدمها الناظم بكلمة عاطفيّة ضمنها قوله: وإن كان رد الفعل على قدْر الفعل فأحداث لبنان الفانيّة كان رد فعلها عندي، هذه القصائد، على أني لست بشاعر وما ينبغي أن أكون اولاها.
والمقصود بأحداث لبنان تلك الحرب الأهليّة التي عصفت بهذا البلد من سنة 1974م حتى سنة 1991م .
والشيخ عبد الله العلايلي رحمه الله لم يقعده تقدّم السِّنّ عن الإمساك بعنان الكتابة، فكان يمدّ الصحف والمجلات التي تتلقى حصاد قلمه وعصارة زبدة فكره بمزيد من العناية والإهتمام. وتحل أبحاثه ومقالاته محل الصدارة في صفحاتها الأولى.
وإن غزارة الشيخ عبد الله العلايلي وكثافة دراساته المنشورة جعلته مصدراً حيًّا لا يستغني عنه الباحثون والمحققون في ذلك الزمن. ونظراً للدور الريادي لمصنفاته القيّمة فإنه حاز جائزة رئيس الجمهورية اللبنانيّة لأحسن المؤلفين سنة 1962م، كما مُنح وساميْ الأرز الوطني أحدهما من رتبة فارس سنة 1954م وثانيهما من رتبة ضابط سنة 1963م .
وفي كلمة كتبها الكسندر سميرنوف المستشرق الروسي في الكتاب الذي أصدره اتحاد الكتّاب اللبنانيين تحت عنوان (الشيخ عبد الله العلايلي مفكراً ولغوياً وفقيهاً) يقول هذا المستشرق:
يأتي اسم الشيخ العلامة عبد الله العلايلي في طليعة العلماء العرب المعاصرين الذين يستند إلى أبحاثهم ومؤلفاتهم الباحثون السوفيات في حقل الاستعراب .... إن المستعربين السوفيات إذ يتابعون بشغف كل عمل جديد من أعمال العلايلي، يتمنون له عمراً مديداً ومزيداً من الإبداع والعطاء العلمي في خدمة تقدّم الشعوب العربيّة والتعارف المتبادل بين الشعب السوفياتي والأصدقاء العرب.
ومن أفضل ما شهد به العلماء المعاصرون على أهمية الشيخ عبد الله العلايلي وتأثيره في إحياء اللغة العربيّة وتجديد حضورها في أمة العرب تلك الشهادة التي أثبتها رمزي البعلبكي عن كلامه على (النظريّة اللغويّة عند العلايلي) حيث قال :
من منن الله على العربيّة أنه سبحانه وتعالى، لا يفتأ يبعث من يحيي هذه اللغة الشريفة في نفوس أبنائها، وينهض بها لتستقيم في معترك البقاء على نقاوة في التشذيب ولدانة في التخيّر واندفاع في الوثب، ولا جديد في القول إن الشيخ العلايلي هو محيي العربيّة على رأس هذه المائة ، فهو المقدمة وهو المرجع ومنه الفكر والنظر والاقتراح والبرهان.
كانت وفاة الشيخ عبد الله العلايلي رحمه الله وأسكنه فسيح جناته في الرابع من شهر كانون الأول سنة 1996م.