الشيخ عبد الرحمن سلام
كان الشيخ عبد الرحمن سلام واحداً ممن ملأوا زمانهم وشغلوا أهل ذلك الزمان بنشاطه الأدبي واللغوي ومشاركته المثيرة للحياة العامة في أواخر العهد العُثماني وطوال عهد الإنتداب الفرنسي الذي تلا العهد السابق.
كانت ولادة الشيخ عبد الرحمن سلام في بيروت، وقد اختلفت الأقوال في تعيين ولادته وذلك لعدم التدقيق في هذا الموضوع آنذاك فمنهم من جعل ولادته سنة 1284هـ 1867م ومنهم من جعلها سنة 1288هـ 1871م والقول الثاني هو الراجح.
وكعادة أهل ذلك الزمان فإن الشيخ عبد الرحمن سلام نشأ في بيئة عائليّة صالحة أتاحت له الفرصة الإفادة من جوها الديني فأكّد على قراءة القرآن الكريم في حضرة والده ، وكعادة أبناء جيله ألحقه أبوه بالشيخ رجب جمال الدين .
وبقي الشيخ عبد الرحمن سلام في عهدته حتى بلغ الثانية عشرة من عمره فانقطع عن هذا الشيخ ولم يلتحق بأي مدرسة أخرى بل أطلق العنان لسجيته الفكريّة وميوله النفسيّة وراح يلازم حلقات الشيوخ في المساجد ويتابع رواد اللغة العربيّة وآدابه .
ولقد كانت لهذه اللغة جاذبيّة خاصة استحوذت عليه فما لبث أن وقف عليها مواهبه وشّد رحال هواه إليها وشّد عقله وهمته وبصره إلى الكتب والمراجع في هذه اللغة من الآجروميّة لمحمد بن محمد بن داوود الصنهاجي، وأطلع على كتاب (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) لإبن هشام النحوي، و(مختصر القدوري في فروع الحنفيّة) و(الفرائد السراجيّة) في أحكام الإرث للإمام سراج الدين أبي طاهر محمد بن محمد عبد الرشيط السجاوندي الحنفيّ، من علماء القرن السابع للهجرة، وكتاب (المفتاح في المعاني) للشيخ عبد القاهر بن عبد الله الجرجاني.
وألح الشيخ عبد الرحمن سلام على دواوين الشعراء في الجاهليّة والإسلام وحفظ الكثير منها ولم تخل مطالعاته من كتب التصوف التي تأثر بما فيها من حكم وإشارات لأهل الطريق. وبالإضافة إلى ذلك فإنه تعلّم اللسان التركي وأتقن الكلام بهذه اللغة.
وعندما أصبح في الخامسة والعشرين من عمره دُعي لتولي القضاء الشرعي في مدينة قلقيلية بفلسطين، فقصد هذه المدينة، وأثناء عمله فيها إتخذ خادمة لخدمته حيث كان وحيداً من دون أهله، فراقت هذه الخادمة له وكانت ذات صبا وجمال مما جعله يتزوجها وكانت هذه الخادمة تدعى سعدى البدويّة من قرية عرعرة وهي أولى زوجاته وهن كثيرات.
وقد دامت إقامته في قلقيلية خمس سنوات إنتقل بعدها إلى رئاسة الكتّاب في المحكمة الشرعيّة ببيروت، بيد أن عمله في هذه المحكمة لم يدم طويلاً، وذلك أنه استقال منه على أثر مشادة كلاميّة بينه وبين القاضي التركي.
في سنة 1912م شّد الشيخ عبد الرحمن سلام رحاله منتقلاً من بيروت إلى دمشق ومعه زوجتاه سعدى البدويّة وبنت النحاس وأولاده، وفي دمشق فتح دكاناً لبيع الكتب المخطوط منها والمطبوع وكانت هذه الدكان في سوق الخجا مقابل القلعة الغرب .
في هذا الدكان تعرف الشيخ عبد الرحمن إلى طبقة من العلماء الدمشقيين الذين رأوا فيه شخصيّة علميّة يمكن الإفادة منه في العمل المدرسي فعرضوا عليه أن يكون معلماً للغة العربيّة في الكليّة الوطنيّة في مدينة حمص التي كانت بإدارة مجموعة التملِّي، فإنتقل الشيخ عبد الرحمن إلى عمله في حمص ومعه زوجته بنت النحاس، أم محيي الدين، بينما بقيت سعدى البدويّة في دمشق إلى حين وفاتها.
في سنة 1915م، والعالم يصطلي أتون الحرب العالميّة الأولى أمر أحمد جمال باشا قائد الجيش العُثماني باستعادة المدرسة الصلاحيّة في القدس التي كان الأتراك تنازلوا عنها في القرن التاسع عشر الميلادي للآباء الفرنسيين مقابل وقوف فرنسا إلى جانبهم في حرب القرم، وكانت هذه المدرسة في الأساس تحمل اسم كنيسة القديسة حنّة، ولما حرر صلاح الدين الأيوبي القدس سنة 583هـ وجعلها مدرسة لعلماء المذهب الشافعي.
ولقد أعاد إليها أحمد جمال باشا اسمها القديم ، أي المدرسة الصلاحيّة ، وجعلها لتعليم العلوم الدينيّة الإسلاميّة. ولما إحتل الإنكليز سنة 1917م سلموا هذه المدرسة إلى الآباء البيض، الذين جعلوها مدرسة لاهوتيّة نصرانيّة وجعلوا منها متحفاً وكنيسة لهم.
ولقد إختار أحمد باشا الجزار الشيخ عبد الرحمن سلام ليكون من بين أساتذتها فلبى الشيخ أمر القائد العُثماني للتعليم في المدرسة المذكورة وكان ذلك سنة 1335هـ 1916م.
بقي الشيخ عبد الرحمن في المدرسة الصلاحيّة إلى ما قبل احتلال الإنكليز للقدس سنة 1917م، وفي حينها رأى القائد العُثماني جمال باشا الصغير الذي خلف أحمد جمال باشا منصبه أن يغلق هذه المدرسة ويسفِّر أساتذتها وطلابها إلى خارج فلسطين. وحدث أن إشتبه القائد جمال باشا الصغير بأن الشيخ عبد الرحمن نظم مع بعض تلاميذه جمعية تدعو لقيام دولة عربيّة، فأمر بأن يُبعد إلى دمشق ماشياً على قدميه مخفوراً وموثوق اليدين ، فسيق الشيخ على نحو ما طلب ذلك القائد حتى إذا ما وصل إلى قرية العفولة رآه القائمقام فيها فعرفه، وأمر بفك القيد عن يديه وأكمل تسفيره إلى دمشق حيث وُضع سجيناً في قلعتها ، وسرعان ما توالت الأحداث العسكريّة التي أدت إلى إنسحاب القوات العُثمانيّة من دمشق وسائر المناطق السوريّة.
ولما دخل الشريف فيصل بن الحسين العاصمة السوريّة دمشق سنة 1918م أطلق سراح الشيخ عبد الرحمن. وحدث آنذاك أن قدّمه ساطع الحصري أول وزير للمعارف أيام الشريف فيصل بن الحسين إلى الشريف المذكور الذي أُعجب بحماسته العربيّة ولهجته الخطابيّة، فسأله عن العمل الذي يريده فأجابه بأنه يرغب في تأسيس النادي العربي وأن يكون خطيباً فيه فاستجاب الشريف فيصل لطلبه هذا ، وما زال النادي العربي موجوداً في دمشق من ذلك الحين حتى اليوم، كما عيّنه مديراً للأوقاف في جميع البلاد السوريّة وإتخذه مستشاراً له، وعندما عُقد مؤتمر العلماء المسلمين بدمشق انتخب نائباً لرئيس هذا المؤتمر في سوريا ولبنان .
وفي سنة 1338هـ 1919م تعيّن الشيخ عبد الرحمن سلام أستاذاً للغة العربيّة وآدابها ولعلم البلاغة في مكتب عنبر وفي مدرسة التجهيز ودار المعلمين في دمشق وظل قائماً بتدريس هذه المواد حتى سنة 1343 هـ 1929م.
ولقد بقي في دمشق حتى سنة 1344هـ 1944م، ففي هذه السنة غادر العاصمة السوريّة عائداً إلى موطنه بيروت بسبب إلحاح زوجته بنت النحاس عليه لأنها كانت ترغب في الإقامة ببلدها الأم بين أهلها وذويها.
في بيروت لم يلق الشيخ عبد الرحمن سلام ما لقيه في دمشق من تقدير أهلها له وإفادتهم من علمه وأدبه فبقي حتى عام 1931م دون أي عمل يغطي نفقات حياته اليوميّة ومسؤولياته العائليّة. وقد ذكر الشيخ أحمد العجوز العالِم البيروتي أن الحرج المادي الذي عاشه الشيخ عبد الرحمن سلام ألجأه إلى تعاطي بيع الخضار في سوق الخضار في بيروت مما جعل جمعية المقاصد الخيريّة الإسلاميّة تلتفت إليه وتعيّنه مدرساً في مدرستها بالحرج لتخفف عنه من ضيق ذات يده.
في سنة 1349هـ 1930م عُيّن الشيخ عبد الرحمن سلام أميناً للفتوى في بيروت، وكان مكتبه في جامع النوفرة ثم إتخذ مكتباً له في الغرفة التي كانت موجودة في الجهة اليمنى من مدخل الجامع العمري الكبير في بيروت وعندما شغر منصب الإفتاء سنة 1351هـ 1932م بوفاة الشيخ مصطفى نجا رحمه الله، إتجهت الأنظار إليه ليخلف المفتي الراحل إلا أنه إعتذر عن الموافقة ورشح لهذا المنصب الشيخ محمد توفيق خالد رئيس كتبة المحكمة الشرعيّة آنذاك، وهذا ما تمّ الاتفاق عليه وبقي الشيخ عبد الرحمن في منصب أمين الفتوى إلى حين انتقاله إلى جوار أكرم الأكرمين سنة 1360هـ 1941م.
من مؤلفاته :
· دفع الأوهام لابن سلام ، في بيان مغالطات الشيخ إبراهيم اليازجي اللغويّة .
· خزانة الفوائد ، في الفقه .
· النظم المفيد في علم التجويد .
· الصافي في علميْ العروض والقوافي .
· غاية الأماني في علم المعاني .
· شرح ديوان النابغة الذبياني .