هو يُوسُف بن عبد القادر بن محمد الحسيني، والأسير، لقب اشتهرت به عائلته لأن أحد أجداده أسره الفرنج بمالطة ولما عاد إلى صيدا عُرف بين مواطنيه باسم (الأسير). ويرجع نسب هذه العائلة إلى البيت النبوي الطاهر عن طريق سبط النبي محمد عليه أفضل الصلاة والسلام الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
ولد الشيخ يُوسُف الأسير في مدينة صيدا بلبنان في شهر ذي القعدة سنة 1230هـ 1815م وقيل بعد هذا التاريخ بسنتين، بدأ نشأته الأولى في صيدا وأخذ علومه الأولى في هذه المدينة. ومن شيوخه في هذه الفترة الشيخ إبراهيم عارفة الذي علّمه القرآن الكريم مع الشيخ علي الديربي، وقد كان عندما أتقن القرآن الكريم قراءة وتجويداً في السابعة من عمره. وبقي نحو خمس سنين يتتلمذ على الشيخ علي الشرنبالي الذي لقّنه مبادئ العلوم العربيّة والدينيّة.
ولما بلغ السابعة عشرة من عمره أنتقل إلى دمشق ومكث بها نحو ستة شهور من سنة 1247هـ يدرس في المدرسة المراديّة التي أسسها الشيخ مراد الحسيني المتوفى سنة 1132هـ وكانت تُعرف باسم أزهر دمشق، ولما توفي والده ترك دمشق وعاد إلى صيدا حيث حلّ مكان أبيه في إعالة أسرته ورعاية شؤونها...
ثم ما لبث أن عاوده الحنين لطلب العلم، فتوجه إلى الأزهر الشريف بمصر وجاور به نحو سبع سنين. وكان من شيوخه في الأزهر الشيخ محمد الشبيني، والشيخ محمد الطنطاوي والشيخ محمد الدمنهوري والشيخ محمد الباجوري والشيخ أحمد الدمياطي، وأدرك في هذه المرحلة العلامتين الشيخ حسن العطّار والشيخ حسن القويسني اللذين تعاقبا على مشيخة الأزهر الشريف آنذاك.
وفي أثناء إقامته بمصر أصيب بداء الكبد فاضطر للعودة إلى موطنه صيدا حيث أنصرف إلى إلقاء الدروس الدينيّة واللغويّة في مساجدها. وما لبث أن دُعي لمنصب رئيس الكتَبَة في المحكمة الشرعيّة بطرابلس الشام وبقي في هذا المنصب نحو ثلاث سنين كان خلالها مقصداً لطلاب العلوم العربيّة من المسلمين والنصارى، ومن هؤلاء الأخيرين يوحنا الحاج الذي سُمّي بطريركاً للطائفة المارونيّة بلبنان في 29 نيسان سنة 1890م، والخوري يوحنا الحبيب مؤسس جمعيّة المرسلين المارونيّة.
ومن محكمة طرابلس نُقل الشيخ يُوسُف الأسير إلى مثل وظيفته في المحكمة الشرعيّة ببيروت. وفي بيروت أتصل به المرسلون الأميركان وكلّفوه بتصحيح لغة الكتاب المقدّس الذي ترجموه إلى العربيّة وطلب إليه القسّ أيلي سمث والقسّ الدكتور كارنيليوس فاندايك إعطاءهما دروساً في اللغة العربيّة، وفي أثناء ذلك طلب من المبشرون الأميركان نظم بعض الترانيم الدينيّة لتلاوتها في كنائسهم الإنجيليّة وتعليم اللغة العربيّة لطلابهم في المدرسة السوريّة الإنجيليّة، الجامعة الأميركيّة حالياً.
ثُم دعي الشيخ يُوسُف الأسير لوظيفة مفتي مدينة عكا بفلسطين، ولما أصبح جبل لبنان متصرفيّة ممتازة بموجب البروتوكول الذي وقعته الدولة العُثمانيّة مع الدول الأوروبيّة في العام 1864م، طلبه داوود باشا الأرمني أول المتصرفين للقيام بوظيفة النائب العام في حكومته، وفي نفس الوقت كلّفه برئاسة تحرير الجريدة الرسميّة التي أصدرها المتصرف المذكور باسم (لبنان).
ومن حكومة جبل لبنان انتقل الشيخ يُوسُف الأسير إلى أسطمبول حيث كُلّف بتدريس اللغة العربيّة في دار المعلمين الكبرى وبعدها عُيّن في وظيفة رئيس مصححي اللغة العربيّة في نظارة المعارف العموميّة في حاضرة السلطنة العُثمانيّة.
وفي أثناء وجوده في أسطمبول كان يقصده كبار الموظفين العُثمانيين لإعطائهم دروساً في اللسان العربي، ومن هؤلاء الموظفين رشدي باشا شرواني الصدر الأعظم، وأحمد جودت باشا ناظر المعارف، ووصفي أفندي رئيس كُتّاب مجلس شورى الدول ، وذهني أفندي رئيس مجلس المعارف والخواجا بوريه سفير فرنسا بالآستانة، وغيرهم كثيرون.
غير أن الشيخ يُوسُف تضايق من شدة برد أسطمبول مما أثر في صحته فآثر العودة إلى وطنه وأستقر في مدينة بيروت منصرفاً إلى التعليم في مدارسها، من ذلك مدرسة الحكمة المارونيّة التي أسّسها يُوسُف الدبس مطران الموارنة في بيروت سنة 1865م، والمدرسة الوطنيّة التي أسّسها المرسلون الأميركان سنة 1863م وأشرف عليها من طرفهم المعلم بطرس البستاني أحد تلامذتهم القدامى، ومدرسة الثلاثة أقمار للروم الأرثوذكس التي أنشئت أول الأمر في سوق الغرب بلبنان ثم نُقلت سنة 1866م إلى بيروت ، والمدرسة السوريّة الإنجيليّة، الجامعة الأميركيّة اليوم، التي أسّسها المرسلون الأميركان أول الأمر في عبيه سنة 1847م ثم نقلوا مركزها إلى بيروت سنة 1866م.
وكان الشيخ يُوسُف الأسير من بين أدباء المسلمين القلائل الذين انخرطوا في الجمعيات العلميّة التي شجع على تأليفها المرسلون الأجانب في البلاد لاستدراج المواطنين إلى التعاطف معهم وترويضهم على الأخذ بحضارتهم وأفكارهم.
وكانت وفاة الشيخ يُوسُف الأسير يوم السبت في 5 ربيع الثاني سنة 1307هـ 28 تشرين الثاني سنة 1889م ودُفن بجبانة سيدنا عمر المعروفة باسم الباشورة في بيروت بعد الصلاة عليه في الجامع العمري الكبير حيث توالى الخطباء والشعراء على تأبينه وتعداد مآثره وفضائله.
كان الشيخ يُوسُف الأسير أحد رواد النهضة الفكريّة في هذه البلاد، وهو يُعتبر في طليعة العلماء الأعلام الذين ابتدأت بهم طلائع الحركة الثقافيّة في القرن العشرين، ولقد تخرّج عليه الجم الغفير من الطلاب، سواء في المدارس الأجنبيّة والوطنيّة وسواهم ممن كانوا يرتادون حلقاته التي كان يعقدها في مساجد بيروت وطرابلس وصيدا، وكان طلابه والمفيدون من علمه وأدبه مزيجاً من الأجانب والوطنيين.
هذا وقد أجمع الذين تحدثوا عنه أو كتبوا سيرة حياته على التنويه بالمكانة العالية التي تبوأها في مجالات الخدمات الحكوميّة أو المجامع الثقافيّة والفكريّة، فقد قال فيه الشيخ عبد الرزّاق البيطار:
إنه شيخ فاضل وعالِم كامل، ذو أسلوب حسن، وبلاغة ولسن، وقريحة جيّدة، وفكرة لما تبديه مجودة، قد سار ذكر مسيرة المثل، واشتهر أمره اشتهار الأثل، وانتفع به عدد وافر، وأذعن لفضله أعيان الأكابر.
وقال الدكتور يعقوب صرّوف في مجلة المقتطف:
إنه كان واسع الرواية، دقيق الانتقاد، تفقه بالعلوم العربيّة والفقهيّة، يرى فائدة في العلوم الطبيعيّة الحديثة ويحث على دراستها وإتقانها.
كان الشيخ يُوسُف الأسير أسمر اللون، أسود الشعر، كث اللحيّة، شاب فوْده ولم يشب فؤاده، صادق الوعد، قوي الذاكرة، يسأل كل مجيب بكل علم، ويراجع العويص فيرده إلى الفهم.
ترك كثيراً من المؤلفات والرسائل والمقالات، تناول فيها مختلف الموضوعات اللغويّة والفقهيّة، وعدداً من المراسلات الإخوانيّة التي تبادلها مع أصدقائه من العلماء والأعيان، إلا أن أكثرها أتلفته النار في حريق أصاب مكتبته في آخر حياته وضاعت أُصولها من غير أن نعرف عنها شيئاً.
من مؤلفاته :
· شرح رائض الفرائض ، في الميراث
· شرح كتاب أطواق الذهب ، للزمخشري
· سيف النصر ، رواية تمثيليّة
· رد الشهم للسهم
· الروض الأريض ، ديوان شعر
· شرح المجلة القضائيّة