الشيخ أحمد البربير 

هو أحمد بن عبد اللطيف بن أحمد بن محمد البربير، كنيته: أبو العبّاس، هكذا ورد في ترجمته بقلم الشيخ عبد الرزّاق البيطار الدمشقي في كتابه (حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر) في الجزء الأول الصفحة 127 وما بعدها، أما خير الدين الزركلي فقال إن كنيته: أبو الفيض. وعرّفه البيطار بالشامي البيروتي، وأضاف الزركلي أنه من آل البيت النبوي الطاهرعن طريق الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وقال إنه حسني، في حين أن يُوسُف اليان سركيس جعل نسبته في هذا البيت إلى الحسين بن علي بن أبي طالب وقال إنه (الحسيني). وكانت ولادته في مدينة دمياط بمصر سنة 1160هـ الموافقة لسنة 1747م، وحينما قال البيطار إن البربير شامي بيروتي، فإنه ربما يكون قد لحظ أن أصل هذه العائلة من دمشق ثم إنتقلت منها إلى بيروت.

وكانت نشأة البربير الأولى في مصر، وبمدينة دمياط بالذات، حيث كانت ولادته. ولقد بقي في هذه المدينة حتى بلغ سنّ الشباب، وفيها تلقى علومه الأولى، وكان من أساتذته وشيوخه في هذه المرحلة من حياته: الشيخ قاسم بن داوود الذي علّمه القرآن الكريم حتى أتقنه حفظاً وترتيلاً وتجويداً فحفظ القرآن الكريم قبل أن يتمّ الثانية عشرة من عمره، ولما بلغ هذه السن كان قد حفظ ألفية إبن مالك في النحو والصرف وحضر شرحها على أستاذه الشيخ فتح الله، كما أخذ الفقه عن جماعة من علماء عصره بمصر في ذلك الحين أمثال:

1.   الشيخ المسمى بالشمس الدنجيهي

2.   الشيخ عبد السلام أبي النصر 

3.   الشيخ مصطفى المحلّي الشهير بالسقا

4.   الشيخ أحمد البستاني الدمياطي

وفي سنة 1183هـ 1769م شدّ البربير رحال السفر من دمياط قاصداً بيروت موطن آبائه وأجداده، على أنه قبل أن يستقرّ بها ألقى عصا النوى في دمشق التي لم يلبث فيها غير فترة محدودة ثن استحث مطيته إلى غايته بيروت التي كانت يومئذٍ في عهدة الأمير يُوسُف الشهابي.

ولما استقر به المقام في بيروت تطلع إلى إنشاء عائلة له فاتخذ زوجة من آل حنتس، على أن زواجه لم يكن موفقاً، على ما يبدو، لأنه ما لبث مع زوجته هذه مدة حتى إنفصل عنها بالطلاق دون أن يُنجب منها أحداً من البنين أو البنات.

ونظراً لما لقيه الشيخ أحمد البربير من المتاعب العائليّة وسوء الحظ في بيروت، فإنه أطلق شعره في التعبير عن خيبة أمله في هذه المدينة، من ذلك قوله في إظهار ندمه على الإقامة فيها وتركه موطنه دمياط:

 لقد غرَّني إبليسُ قومي بقولِه  تغرَّن عن الأوطان في طلب المجدِ
كما غرَّ إبليسُ الشيَّاطينِ آدماً أخرجه بالمكر من جنة الخـــلدِ

لقد كان الباعث الذي حمل الشيخ أحمد البربير على ترك دمياط والقدوم إلى بيروت، رغبته في طلب العلم على مشايخها من العلماء، بيد أنه عندما أقام فيها زمناً وإتصل بهؤلاء المشايخ ألفاهم دون المستوى الذي توقعه فيهم مما خيّب آماله التي علّقها عليهم وحمله على أن يرسل على المدينة وعلى علمائها وأهلها وابلاً من سخطه، إلا أن رأي البيروتيين فيه كان على النقيض من ذلك تماماً، فإن هؤلاء لم يبخسوه حقه ولم ينكروا عليه مكانته الأدبيّة والعلميّة ولم يغمطوه ما كان يتحلى به من المزايا الخلقيّة وأهليته في تولي المناصب العالية.

لذلك فإن الأمير يُوسُف الشهابي، وقد كانت بيروت في جملة عمالته الإداريّة، حرص على الإتصال به وأراده على تولي الفتوى والقضاء في هذه المدينة، ولما أعرب الشيخ عن إعراضه عن قبول هذا المنصب، راوده الأمير على الموافقة حتى استطاع ٌقناعه بالنزول عند رغبته في النهاية، إلا أن الشيخ البربير ربط موافقته على قبول المنصب بأشراط قاسية بقصد تعجيزه وطلب من الأمير التزامها تحت طائلة الإستعفاء من عمله إذا هو أهملها أو أخلّ بواحدة منها ولم ينفذها بتمامها، ومن هذه الشروط التي حددها الشيخ البربير للأمير:

1.  أن لا يتصدى للدعوى بعد أن يكون فصلها بمجلس قضائه، وأن يأمر بتنفيذها دون تلكؤ.

2.  إذا كانت الخصومة بين الأمير، أي السلطة الحاكمة، وبين أحد من المواطنيين العاديين، وكان الحكم ضد الأمير، فإن هذا عليه أن يأمر بتنفيذ ما أمر به الشرع الحنيف.

3.  أن يبعث الأمير من قِبله أحد أتباعه ويجلس في المحكمة لتحصيل ما على الدعوى من الرسوم المقررة بين القضاة.

ثم إنّ الشيخ أضاف إلى ما تقدّم شرطاً لا يخلو من الطرافة والتحرر، وهو أن لا يلزمه الأمير بارتداء الزي المقرر للقضاة الذي كان متعارفاً عليه في زمانه، وهو العمامة والفرجيّة.

وبالفعل، فإن الأمير الشهابي نزل عند رغبة الشيخ وتعهد له بالتزام الشروط التي طلبها كي لا يحرم البلد من كفاءات هذا العالِم الكبير في مجالات العدالة والقضاء والفتوى.

ولقد تكررت منظومات البربير في الإعراب عن شكواه من المنصب الذي حمل عليه بالرغم منه، دون أن يلقى أذناً صاغية من ولي الأمر، مما اضطره آخر الأمر لأن يوجّه إلى الأمير يُوسُف الشهابي مباشرة ، قصيدة مطولة، طواها على رجائه ألحَّ الرجاء في أن يستجيب لتوسلاته بقبول إعفائه من القضاء.

فما أن أطلع الأمير يُوسُف الشهابي على هذه القصيدة، بادر من توّه إلى إصدار أمره بإعفاء الشيخ البربير من حمل هموم القضاء وأقاله من بلواه في هذا المنصب الذي فُرض عليه وهو له كاره. واكتفى بأن عيّن له مرتباً يستعين به على تلبية مطالب الحياة وتأمين ضرورات العيش الكريم.

إن إقامة الشيخ أحمد البربير في مدينة بيروت لم تدم طويلاً، ذلك أنه بعد أن أُعفي من عمله في القضاء وأصبح حراً من القيود الرسميّة انصرف إلى إشباع هوايته في التدريس، فافتتح مكتباً لتعليم الأولاد، وفي هذه الأثناء حدث أن تعرضت بيروت في سنة 1195هـ 1771م إلى عدوان مسلح قام به قراصنة روس كانوا يعيثون فساداً في شواطئ البحر الأبيض المتوسط مما أدى إلى اضطراب حبل الأمن في هذه المدينة وحمل أهاليها على النزوح إلى حيث يجدون الأمن والطمأنينة على أنفسهم وأموالهم، وأما الشيخ البربير فإنه وجد أن يترك بيروت نهائياً وقصد دمشق حيث نزل معززاً مكرماً بضيافة أحد علمائها الأفاضل الشيخ خليل المرادي صاحب كتاب (سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر) الذي أكرم مثواه وشمله ببره وأحاطه بما يليق بأمثاله من الرعاية والتكريم، ثم إنتقل الشيخ البربير بعد ذلك إلى سكن خاص به في محلة الصالحيّة في نفس المدينة.

وفي دمشق أراد أن يجرب حظه في الزواج مرة ثانية لعله يُرزق بولد صالح يدعو له، فاتخذ زوجة من آل الصلاحي الدمشقيين، إلا أن حظه من هذه الزوجة لم يكن خيراً من حظه في زواجه الأول من حيث الإنجاب فبقي رحمه الله عقيماً من أي ولد.

وقد كان أول مقامه في دمشق، كما ذكرنا، في بيت مفتي الشام ونقيب أشرافها الشيخ محمد خليل المرادي.

وفي هذا البيت الكريم وجد الشيخ أحمد البربير من مضيفه الشيخ المرادي ما ألهم لسانه بالثناء والحمد لجميع أهل الشام من خلال مكارم مفتيهم ونقيب أشرافهم، وأتيح له أن يتصل بالمجتمع الدمشقي على أعلى مستوياته العلميّة والاجتماعيّة، هذا ما ساعده على مبادلة الدمشقيين حياتهم الفكريّة ونشاطاتهم في ميادين الأدب والمعارف المختلفة، ومن ثم فإنه إرتبط معهم بصداقات حميمة تركت ظلالها الواضحة في كتابه (الشرح الجلي على بيت الموصلي)، كما تركت هذه الصداقات آثارها في أشعاره التي نظمها وهو بدمشق في مناسبات مختلفة .

من شيوخه الدمشقيين الذين تتلمذ عليهم أو نال إجازتهم في بعض الفنون والعلوم بعد إنتقاله إلى دمشق وإقامته فيها، فكانوا عديدين وكلهم من أكابر الشيوخ الذين لمعوا في بلدهم وأصابوا حظاً وافراً من المعرفة وضروب الثقافة اللغويّة والدينيّة التي كانت سائدة في زمانهم.

وكان لقاؤه بهؤلاء الشيوخ، على فترات متفاوتة، سواء في بيت الوجيه الدمشقي الشاب محمد بك العظم أو في بيت مضيفه الشيخ محمد خليل المرادي مفتي الأحناف في الشام أو نزوله بدمشق، من هؤلاء الشيوخ والعلماء الدمشقيين، محدثا دمشق: الشيخ محمد الكزبري والشيخ أحمد العطار، ومنهم كذاك الشيخ حسن المدرِّس الشهير بالعطار والشيخ مصطفى الصلاحي، كما إتصل وهو في دمشق بالشيخ مصطفى الرحمتي والشيخ محمد البخاري، أحد أعلام المحدثين، نزيل نابلس بفلسطين، وقد نظم البربير في مدح هذا العالِم بيتين من الشعر قال فيهما:

شعري لِحافِظِ عَصْري بِالمَدْحِ ، أمْسَى يُترَجمْ
 فانْقُلْ حديثَ البُخاري عنِّي ، إلى كُلِّ مُسْلِمْ

وكانت مكانة البربير العالية في الآداب العربيّة والعلم الشرعيّة تستهوي إليه وإلى مجالسه المفيدة أفئدة طالبي العلم والراغبين بأسباب الثقافة والمعرفة، فكان هؤلاء وأولئك يقصدونه في بيته أو مكتبه لينهلوا من معين ثقافته وغزير أدبه.

وكثيرون من هؤلاء الذين طلبوا العلم على يديه، تقلدوا في بلدهم أعلى المناصب الدينيّة والحكوميّة، ونالوا أسنى المراتب الفكريّة. نذكر من ذلك: الشيخ عبد اللطيف فتح الله الذي تسلّم الفتوى في بيروت مدة طويلة حتى غلب عليه لقب المفتي وأصبح هذا اللقب علماً عليه وعلى عائلته من بعده حتى اليوم، ومثله تلميذه الشيخ أحمد الأغر الذي تولى أيضاً منصب الفتوى بهذه المدينة تارة، وقضاءها تارة ثانية، كما جمع له هذان المنصبان في بعض الأحيان بآنٍ واحدة.

وممن تتلمذ على الشيخ أحمد البربير أثناء وجوده في بيروت عدد من أعيان جبل لبنان وأبنائهم مثل الشيخ شاهين تلحوق والشيخ قاسم بن الشيخ بشير جنبلاط من زعماء العائلات الإقطاعيّة الدرزيّة.