محمد جميل بيهم
آل بيهم من الأسر القديمة في بيروت، والمعمرون من هذه الأسرة يقولون بأن أجدادهم كانوا من أهل الأندلس. ومنها انتقلوا إلى المغرب، ثم قدم بعضهم إلى بيروت التي أصبحت موطناً لهم ولأبنائهم من بعدهم.
إن آل بيهم هم في الواقع يرجعون إلى عائلة العيتاني البيروتية. وحتى عهد قريب كانوا يُعرفون باسم آل بيهم العيتاني. وكان عبد الله بيهم العيتاني جّد هذه الأسرة من كبار التجار في بيروت في القرن العشرين وله محل تجاري كان يتبادل التعامل تصديراً واستيراداً مع أشهر المحال والبيوت التجارية في أوروبا وأميركا.
محمد جميل بيهم هو إبن محمد بن مصطفى بن حسين بيهم بن ناصر العيتاني، كانت ولادته في بيروت سنة 1887م في وسط بيئة عائليّة جمعت مكانتها الاجتماعيّة من خلال تاريخ رجالها الذين ضربوا بسهم وافر من الوجاهة والثراء والثقافة الدينيّة والأدبيّة، وما يزال أهل القلم يتحدثون حتى اليوم عن حسين بيهم الذي كان شاعراً مبدعاً وأديباً مُجيداً مرموقاً في النهضة العلميّة التي بدأت بواكيرها في البلاد ما بين القرنين التاسع عشر والعشرين، كما أن سدة الحكم في لبنان عرفت في عبد الله بيهم واحداً من أركانها خلال الحقبة التي مرت على لبنان في أوائل عشر الثلاثين من القرن العشرين.
بدأ محمد جميل بيهم دراسته في نشأته الأولى في الكليّة العُثمانيّة التي أنشأها الشيخ أحمد عباس الأزهري، ومن هذه الكليّة إنتقل إلى مدرسة أوليفيا الفرنسيّة التي كانت نواة لمدرسة البعثة العلمانيّة الفرنسيّة في بيروت، اللاييك، وإن نزوع محمد جميل بيهم إلى التزود بالعلم رافقه من سن الحداثة إلى ما بعد تقدمه في السن إلى عهد الكهولة. ففي خريف عام 1928م قدّم إلى معهد الآداب بجامعة باريس أُطروحة لنيل درجة الدكتوراه عنوانها (الإنتداب في العراق وسوريا)، وكان المُشرف على هذه الأطروحة الأستاذ الفرنسي دو مومبين Gaudefray De Monbynes.
وجدير بالذكر أن هذا الوجيه الكاتب ظّل حتى يوم وفاته في 8 أيار 1978م، أي على مدى واحد وتسعين عاماً بكامل أيامها وشهورها حريصاً على اكتساب العلم من مناهله العربيّة والأجنبيّة وفي نفس الوقت كان أيضاً حريصاً على نشره عبر آلاف الصفحات من مؤلفاته.
وبسبب معاصرته للعهد العُثماني ودراسته في الكليّة العُثمانيّة ثم في مدرسة أوليفيا الفرنسيّة، فإنه استطاع إتقان اللغات الثلاث: العربيّة والتركيّة والفرنسيّة.
في سنة 1913م تزوج محمد جميل بيهم من زينب عبد الرحمن بيهم، ثم تزوج للمرة الثانية سنة 1929م من السيدة نازك العابد ابنة مصطفى باشا العابد من أعيان سوريا الذي تولى متصرفيّة الكرك وولاية الموصل في أواخر العهد العُثماني.
إن الفترة التي تزامنت مع حياة محمد جميل بيهم كانت من المراحل الفاصلة في تاريخ الهرب الحديث، وهذا ما جعله وثيق الاتصال بالأحداث التي عاشتها الأمة العربيّة في هذه الفترة التي امتدت من أواسط القرن العشرين وما تزال متمادية حتى أيامنا الحاضرة. ولما كان محمد جميل بيهم متابعاً لمجرى تلك الأحداث فإنه لم يحجم عن خوض غمارها لا سيما عندما خفر الحلفاء ذمة عهودهم التي قطعوها للعرب حتى أهاجوهم للثورة على الدولة العُثمانيّة، ففي سنة 1919م كان محمد جميل بيهم المندوب الذي اختاره البيروتيون لتمثيلهم في المؤتمر العربي الأول الذي أعلن المملكة العربيّة السوريّة، وأنتُخب الشريف فيصل بن الحسين ملكاً لهذه المملكة، ولقد انبعثت عن هذا المؤتمر لجنة الإحتجاج على فصل لبنان عن سوريا وعلى توكيل بطريرك الموارنة إلياس الحويك عن لبنان للذهاب إلى باريس. وكان محمد جميل بيهم في عداد هذه اللجنة التي كان من أعضائها أيضاً، الأمير أمين أرسلان، ومظهر بك رسلان، وسعيد بك طليع، ورشيد بك جنبلاط، وإبراهيم بك هنانو، وتوفيق أفندي مفرج، والشيخ عبد القادر الخطي.
وبعد أن حُمّ قضاء الله وأصبحت بيروت تابعة لدولة لبنان الكبير الذي أعلنه الجنرال الفرنسي غورو في الأول من شهر أيلول سنة 1920م جرت انتخابات نيابيّة سنة 1922م لتختار كل طائفة من الطوائف الدينيّة التي يتألف منها الشعب اللبناني نائباً عنها، ترشح محمد جميل بيهم للنيابة عن مسلمي بيروت، ولكنه ما لبث أن سحب هذا الترشيح بعد أن تأكد له بأن الفرنسيين لن يمكنوه من الفوز بالنيابة.
وفي سنة 1923م عندما تعيّن الجنرال ويغان مفوضاً سامياً في سوريا ولبنان كان محمد جميل بيهم بين الزعماء الذين اعترضوا على إلحاق بيروت بالدولة اللبنانيّة.
محمد جميل بيهم مع المندوب الفرنسي جابريال دوبوا1943م
وفي سنة 1928م انتمى محمد جميل بيهم إلى حزب الإصلاح السوري الذي كان يرأسه أحمد الداعوق من أعيان بيروت، الذي تولى رئاسة الحكومة اللبنانيّة فيما بعد، ومن خلال وجوده في هذا الحزب تصدى للداعين إلى إحلال اللهجة اللبنانيّة العاميّة محل اللغة العربيّة الفصحى وقدّم للدكتور أبو الروس وزير المعارف آنذاك مذكرة جاء فيها قوله:
( يعزّ عليّ أن يتناسى أهل لبنان أن اللغة العربيّة ليست هي لغة الإسلام فحسب، وإنما هي لغة العرب كافة استعملها المسيحيون والمسلمون سواء، وفاخروا بها وحجوا لسماع معلقاتها وما أحرى اللبنانيين أن يكونوا أصحاب غيرة على لغة أجدادهم كما هم إخوانهم في سائر سوريا ).
وفي سنة 1929م، يوم كان شارل دبّاس رئيس الجمهورية اللبنانيّة وإميل إدّه رئيس الوزراء ونجيب عبد الملك وزير المعارف، صدر مرسوم جمهوري بإنشاء المجمع العلمي اللبناني وكان محمد جميل بيهم من بين أعضائه وهم بالإضافة إليه: الشيخ إبراهيم المنذر، أسد رستم، يُوسُف الخوري، الشيخ عبد الرحمن سلام، الشيخ علي الزين، الخوري يُوسُف عبّود، القاضي جرجي صفا، المطران جرجي سبيتي، الشيخ منير عسيران، الشيخ أحمد عمر المحمصاني، المحامي وديع عقل، الدكتور إلياس فيّاض، والشيخ أمين تقي الدين.
وفي سنة 1929م تنادى المسلمون في بيروت لتأليف جمعية إتحاد الشبيبة الإسلاميّة لتهتم بشؤونهم وتطالب بحقوقهم في شتى الحقول التربويّة والاجتماعيّة والسياسيّة وكان لهذه الجمعية نشاط بارز في إقناع المسلمين بأن يتسجلوا في الإحصاء الذي جرى بلبنان سنة 1932م، وقد كانوا آنذاك يرفضون حمل الهوية اللبنانيّة لعدم موافقتهم على الكيان اللبناني.
وفي سنة 1943م دعا محمد جميل بيهم عدداً من المهتمين بالقضايا العامة واتفق معهم على تأليف (الكتلة الإسلاميّة) التي أخذت على عاتقها إظهار وجهة نظر المسلمين في النواحي الحكوميّة والسياسيّة والتربويّة، وقد تابعت هذه الكتلة مساعيها من أجل تأمين العدالة والمساواة لسائر المواطنين اللبنانيين دون التمييز بينهم بسبب أديانهم ومناطقهم.
وفي سنة 1944م دعا محمد جميل بيهم لتأليف(اتحاد الأحزاب اللبنانيّة لمكافحة الصهيونيّة)، وتمّ انتخاب الهيئة الإداريّة لهذه المنظمة برئاسته لمكافة الصهيونيّة وحضهم على الدفاع عن عروبة فلسطين وحق العرب الشرعي فيها.
هذه بعض الملامح من حضور محمد جميل بيهم في الحياة الوطنيّة والقوميّة سواء داخل لبنان أو في البلاد العربيّة وغيرها من الأقطار الأجنبيّة.
أما في ميدان الكتابة والتأليف وإلقاء المحاضرات في حقل الاجتماع والتاريخ فإن لمحمد جميل بيهم آثاراً مطبوعة ومخطوطة تدل على وفرة عمله وبُعد نظره وعمق تفكيره. ولقد بدأ حياته بتأليف الكتب في المرأة، وأول هذه الكتب أصدره سنة 1921م تحت عنوان (المرأة في التاريخ والشرائع). وفي سنة 1927م صدر له كتاب بعنوان (المرأة في التمدن الحديث). وفي سنة 1952م أصدر كتاب (فتاة الشرق في حضارة العرب). وفي سنة 1962م وهي السنة التي أُعلنت عاماً دولياً للمرأة إنتهز المناسبة وأصدر كتاباً بعنوان (المرأة في حضارة العرب والعرب في حضارة المرأة) .
إن هذا الإهتمام بموضوع المرأة أعطاه لقب (نصير المرأة) ولكن اندفاعه في الدفاع عن المرأة وحقوقها سرعان ما خفت حدته عندما لاحظ بأن النساء في بلادنا بالغن في تقليد النساء الأجنبيات لجهة التبرج الفاضح، والبروز غير المتحفظ في المحافل العامة والشوارع، الأمر الذي حدا به إلى القو:
( لقد ناصرت المرأة ودعوت إلى حريتها حينما كانت المرأة غارقة في تقاليد تسيء إلى كرامة مجتمعها ، ولكن حين أصبح الجيل الذي طلبت له الحريّة يتبع تقاليد طائشة بلا وعي وبلا توقف عند حد، تحوّلت إلى مجابهة المرأة في ذلك حباً للمرأة نفسها).
وإلى جانب كتبه في المرأة فإن عشرات الكتب الأخرى التي احتوت صفحاتها على دراسات تاريخيّة يمكن اعتبارها بحق من الوثائق التي لا يستغني عنها الباحثون المهتمون بمتابعة التطورات التي عاشتها الأمة العربيّة لا سيما في الفترة الواقعة بين أواخر العهد العُثماني وأوائل العهود الاستقلاليّة التي أدركها وحلل ملابساتها وخلفياتها بعقل الناقد البصير.
ولعل كتابه (فلسفة التاريخ العُثماني) الذي أصدر الجزء الأول منه سنة 1925م والثاني سنة 1954م يعتبر من أفضل ما كتب عن أسباب نجاح السلطة العُثمانيّة وأسباب سقوطها. وجدير بالذكر أنه في هذا الكتاب تناول سيرة سلاطين آل عثمان وأعمالهم السياسيّة والعسكريّة بأسلوب موضوعي، بحيث جاء هذا الكتاب بدراسة تحليليّة للعهد العُثماني من بدايته حتى نهايته دون أن تشوبها شائبة من جموح العاطفة الشخصيّة، ذلك أن المؤلف أنتقد ما يجب انتقاده برصانة العالِم المدقق ولم يبخل على السلاطين الأتراك في إظهار مزاياهم عندما كانت هذه المزايا تلوح له في ثنايا تاريخهم.
وبعد .....
لقد كان محمد جميل بيهم تراثاً بيروتيّاً لا يمكن لأي قلم يكتب تاريخ بيروت إلا أن يقف عند اسمه ويقدّمه في موكب الخالدين من أبناء هذه المدينة التي كرمته بحفل ضمّ الجم الغفير من قادري فضله وعلمه ومكانته الذين اجتمعوا يوم 20 جمادي الآخرة 1399 هـ الموافق 17 أيار 1979م لمناسبة مرور سنة على استئثاره خالقه به يوم الإثنين الواقع في الأول من جمادي الآخرة 1398هـ الموافق 8 أيار 1978م وذلك لتستمعوا إلى نخبة من علماء لبنان والبلاد العربيّة الذين أموا دار الفتوى ببيروت وتعاقبوا على الكلام عنه.