ووصلت إقبال و أولادها إلى الكويت في اليوم التالي ونزلوا في بيت علي السبتي خلال اقامتهم في الكويت. وكانت إقبال تزور زوجها في المستشفى كل يوم فتؤنسه وتخدمه
وكانت رؤية أطفاله تدمي قلبه على رغم ما كانت تدخل إليه من سعادة. فقد كان يعلم أنه مائت وتاركهم وراءه ولم يكن بدر الآن قادرا على كتابة الشعر بتدفق كالسابق. على الرغم من الحافز الأقوى على الكتابة وفي 14 آب 1964 كتب قصيدة (المعول الحجري) وفيها يقول:

رنين المعول الحجري يزحف نحو أطرافي
سأعجز بعد حين عن كتابة بيت شعر في خيالي جال
فدونك يا خيال مدى و آفاق ألف سماء
وفجر من نجومك ، من ملايين الشموس من الأضواء
وأشعل في دمي زلازال
لأكتب قبل موتي أو جنوني أو ضمور يدي من الإعياء
خوالج كل نفسي ، ذكرياتي ، كل أحلامي
و أوهاني
و اسفح نفسي الثكلى على الورق
ليقرأها شقي بعد أعوام وأعوام
ليعلم أ، أشقى منه عاش بهذه الدنيا
وآلى رغم وحش الداء والآلام و الأرق
و رغم الفقر أن يحيا

وينهي بدر قصيدته مودعا أصدقاءه وأحباءه، وهو يعلم أن مرضه لن يسمح له بمزيد من الحياة

وفي ليلة 21 سنة 1964 كتب قصيدة عنوانها ليلة وداع أهداها إلى زوجتي الوفية وفيها يعبر بدر عن حبه لزوجته وعطفه عليها وشعوره معها في وحدتها ويتمنى لو كان بمقدورها أن تشعر معه ويقول:

آه لو تدرين ما معنى ثوائي في سرير من دم
ميت الساقين محموم الجبين
تأكل الظلماء عيناي ويحسوها فمي
تائها في واحة خلف دار من سنين
و أنين
مستطار اللب بين الأنجم

وعندما يتحدث عن حبه لها يتمنى لو كانت أقل غيرة و أكثر صراحة ويقول:

 
آه لو كنت كما كنت صريحه
لنفضنا من قرار القلب ما يحشو جروحه
ربما أبصرت بعض الحقد ، بعض السأم
خصلة من شعر أخرى أو بقايا نغم
زرعتها في حياتي شاعره
لست أهواها كما أهواك يا أغلى دم ساقى دمي
إنها ذكرى ولكنك غيرى ثائره
من حياة عشتها قبل لقانا
أوصدي الباب . غدا تطويك عني طائرة
غير حب سوف يبقى في دمانا

عادت زوجته و أطفاله إلى العراق في اليوم التالي وكان بدر خلال اقامته في المستشفى يكسب بعض المال بنشر قصائده في الصحف الكويتية التي كانت تدفع له جيدا. ومنه مجلة (الرائد العربي) التي كان يحرر فيها إبراهيم أبو ناب، فكانت تدفع له عشرة دنانير عن كل قصيدة وكان بدر في غضون ذلك يقوم باتصالات لنشر مجموعة جديدة من شعره لدي دار الطليعة في بيروت، بعنوان شناشيل ابنة الجلبي وكانت صحته قد هبطت هبوطا شديدا. وفقد الشهية للطعام وزاد هزاله. وعلى الرغم من تعاطي الأدوية المقوية فقد بلغ ضعفه درجه أصبح معها يجد صعوبة في الكلام أحيانا وقد أصيب بكسر في عنق عضل فخذه اليسرى بينما كانت المدلكة تقوم بتدليكه، وذلك لذوبان الكلس في العظام.

وفي أيلول 1964 أصيب مرتين بالنزلة الصدرية وصل فيها إلى حالة خطيرة كادت تودي بحياته لولا العلاجات التي أعطيت له بكميات كبيرة.

وفي أواخر أيلول 1964 عندما لم يكن بعد قد تغلب على نزلته الصدرية أرسلت له مصلحة الموانئ العراقية في البصرة رسالة تخبره فيها أنه ابتداء من بعد ظهر 27 أيلول 1964 انتهت مدة أجازته المرضية البالغة 180 يوما بدون راتب، وأنه لعدم استئنافه العمل أحيل على التقاعد استنادا لأحكام الفقرة 30ب من المادة 46 من قانون الخدمة المدنية رقم 24 لسنة 1960. ولم يكن أثر هذه الرسالة في بدر حسنا بالطبع.

وفي تشرين الأول 1964 بلغ الضعف حدا لم يعد منه قادرا على الأكل، واستوجبت الحالة تغذيته بواسطة أنابيب تدلى من أنفه. وقد أرسلت له جمعية المؤلفين و الكتاب العراقيين ببغداد منحة مالية قدرها مائة دينار عراقي في محاولة لمساعدته ماليا ومعنويا. بيد أن أية مساعدة لم تكن مجدية.

وبدأت تنتاب بدرا نوبات من الهذيان و التصورات الوهمية، فان هزاله وضعفه الشديد و اضطراب جهازه العصبي بدأت تؤثر في دماغه. وكان يستعيد صفاءه الفكري مدة ساعات ليعود بعدها إلى حالة من الاضطراب الفكري.

وقد وصفته الشاعرة سلمى الخضراء الجيوسي في هذه الفترة ، فقالت: بدر إلى سرير المستشفى- المستشفى الأميري في الكويت- الغرفة رقم 1 ، وفي أنفه أنبوب الطعام، و الحياة تهجر جسمه الذي أذوته الجهود و الأوجاع، وعذبه ترقب الموت. انه يناديني نعم يا بدر. صوتي مرهق وخافت.

إذا ينطلق في هواء الغرفة الساخن الحزين. لقد كنت ارتجف. وأوشك على البكاء هل تعلمين؟ لقد ضاع دفتر شعري الجديد وبصوت لا يكاد يسمع إقبال لم تجئ. ثم بعد لحظات لقد ضاع مني كل شيء هراء قلتها له ألف مرةإن ما ملكت لا يضيع. ما كان أفقرنا لو ضاع منا ما أعطيت انهم لم يروك كما رأيتك أنا، في تلك النهاية البطيئة التي تحطم القلب الأنابيب و البثور ة الهذيان و الطعام الذي لم يمس لحظات الصفاء اللامعة ثم الكابوس و الانهيار، مودتك وحكاياتك و طلباتك الصغيرة، ينبوع الشعر الذي ظل يتفجر من قلبك

لقد عرفت لحظة الشعر في نفسك أطراف النقيضين: ينبوع الشعر، والانكسار المغدور البائس و انسحاقه في الموت.

ويقول الدكتور محمد أبو هنطش مدير المستشفى الأميري بالكويت ويروي إبراهيم أبو ناب أن بدرا حدثه كيف كان إبليس يحاول جره إلى النار، وكيف كان هو يقاوم ويمانع ويدافع عن نفسه، بأنه ليس الشخص المراد به ذلك.

ويقول ناجي علوش أنه كان يسمع بدرا يهذي بالجن و الأرواح ويقول راضي صدوق أن بدرا في لحظات صفائه الفكري، كان يعتذر لأصدقائه عما قد يكون قاله لهم خلال لحظات هذيانه وتصوراته الوهمية.

وكان بدر يدخن كثيرا ويشرب الشاي الثقيل. ولم يكتب شعرا مدة طويلة. وفي 10 تشرين الثاني 1964، كتب بدر قصيدة عنوانها عكاز في الجحيم وهي على ما يروى علي السبتي آخر ما كتب بدر من قصائد ولكن هناك قصيدة أخرى غير مؤرخة عنوانها إقبال و الليل يقول فؤاد طه العبد الجليل أخو زوجة بدر الذي نشر مجموعة بدر الأخيرة، إنها قد تكون آخر ما كتب بدر. وربما كتبت في حدود هذا التاريخ وفي القصيدة الأولى يلخص بدر تاريخ عذابه الذي سجنه في سريره وحد من انطلاقة عبقريته ويقول:

وبقيت أدور
حول الطاحونة من ألمي
ثورا معصوبا، كالصخرة، هيهات تثور
والناس تسير إلى القمم
لكني أعجز عن سير - ويلاه- على قدمي
وسريري سجني ، تابوتي، منفاي إلى الألم
و إلى العدم

ثم يقضي في قوله كيف كان يتوقع أن يقدر على المشي يوما ولو على عكازين. لكنه الآن يرغب أن يسعى على رأسه أو ظهره ليصل القبر ويشق دربه إلى الجحيم. ويصرخ في وجه موكلها


لم تترك بابك مسدودا ؟ ولتدع شياطين النار
تقتص من الجسد الهاري
تقتص من الجرح العاري
وتأت صقورك تفترس العينين و تنتهش القلبا
فهنا لا يشمت بي جاري
أو تهتف عاهرة مرت من نصف الليل على داري
بيت المشلول هنا ، أمسى لا يملك أكلا أو شربا
وسيرمون غدا بنتيه وزوجته دربا
وفتاة الطفل إذا لم يدفع متراكم إيجار
انثرني ويك أباديدا
وافتح بابك لا تتركه أمام شقائي مسدودا
ولتطعم جسمي للنار

وفي القصيدة الأخرى يلخص بدر في ليلة طويلة ساهرة حبه للعراق وجيكور ولأصدقائه وأقاربه، ولزوجته و أطفاله، ويوجه الكلام لزوجته فيقول :


يا أم غيلان الحبيبة صوبي في الليل نظره
نحو الخليج. تصوريني اقطع الظلماء وحدي
لولاك ما رمت الحياة، ولا حننت إلى الديار
حببت لي سدف الحياة، مسحتها بسنا النهار
لم توصدين الباب دوني؟ يا لجواب القفار
وصل المدينة حين أطبقت الدجى ومضى النهار
والباب أغلق فهو يسعى في الظلام بدون قصد

ثم ينهي بدر القصيدة بنغمة عاطفية فيقول :


إقبال مدي لي يديك من الدجى و من الفلاه
جسي جراحي و امسحيها بالمحبة و الحنان
بك أفكر لا بنفسي : مات حبك في ضحاه
وطوى الزمان بساط عرسك و الصبى في عنفوان

في كانون الأول 1964 كانت لحظات الصفاء في تفكير بدر تقل وتصبح نادرة ولحظات الاضطراب تكثر وتصبح متصلة تقريبا. ولم يتعرف على كثيرين من أصدقائه ومعارفه عندما كانوا يزورونه وبدأت تنتابه، بالإضافة إلى ذلك، حالات إغماء وفقدان الوعي كانت تدوم ساعات فإذا صحا كان كامل الوعي متمالكا لقواه العقلية لا ينقصه شيء سوى قواه الجسدية. و أخيرا، وفي يوم الخميس الموافق للرابع و العشرين كمن كانون الأول 1964 وقع في غيبوبة وفاضت روحه في الساعة الثالثة بعد الظهر فأبرق علي السبتي ينعي بدرا لأهلهن وأخبرهم أنه سيصطحب جثمانه إلى البصرة يوم الجمعة في 25 كانون الأول 1964 .

وكان اليوم يوما ماطرا لم تر المنطقة مثله مدة سنين عديدة. ورافق المطر السيارة التي حملت جثمان بدر من الكويت الى أن وصلت البصرة، في ذلك اليوم الذي كان العالم يحتفل فيه بعيد الميلاد. واستقبلها في البصرة مزيد من المطر وأخذ جثمان بدر بالسيارة إلى داره في شارع أجنادين بالمعقل. لكن الدار كانت خالية، إذا أن عائلته كانت قد خرجت منها بأمر حكومي في ذلك اليوم نفسه. فأخذ جثمان بدر بالسيارة إلى دار فؤاد طه العبد الجليل في محلة الأصمعي، ولكن لم يكن في البيت أحد، وقيل لعلي السبتي أن الجميع ذهبوا إلى المسجد لاستقبال الجثمان وحضور الجنازة وسيق الجثمان إلى المسجد حيث اجتمع قلة من الأهل و الأصحاب. وبعد صلاة الجنازة أخذ جثمان بدر إلى الزبير يرافقه بضعة رجال فقط، فووري التراب في مقبرة الحسن البصري غير بعيد عن قبر ذلك الرجل العظيم وكان المطر لا يزال ينهمر، ولكن لم يكن يرى في المنطقة نخيل.

الصفحة الرئيسيّة للشخصيات العربيّة