ولاته
ولاته
مدينة الرمل والشمس الغاربة
تتوزع على طول خريطة الصحراء الافريقية الكبرى مجموعة من المدن التاريخية العربية الاسلامية التي لم تنل بعد ذلك القدر من الاهتمام في وسائل الاعلام العربية، بعض هذه المدن في المناطق الجنوبية الصحراوية من دول المغرب الكبير، والبعض الآخر في الاجزاء الشمالية من دول افريقيا كمالي والنيجر وتشاد، وهي مدن تشترك في ميزة موحدة هي ما اصطلح الباحثون على تسميته المعمار الصحراوي، وعند البعض (العمارة السودانية) التي تحمل مظاهر مشتركة بديعة من مقومات ومظاهر العمارة العربية الاسلامية وايضا مع مسحة من افريقيا جنوب الصحراء.
ولعل من ابرز هذه المدن الصحراوية واكثرها الآن عرضة لخطر الاندثار المدن
التاريخية الموريتانية التي اطلقت الامم المتحدة نداء دوليا لحمايتها من
التصحر والانقراض، وهذه المدن هي (ولاته وتيشيت ووادان وشنقيط) وفي العرض
التالي سنثير بعض الملاحظات حول تاريخ وميزات مدينة ولاته التي تقع على بعد
1200
كلم شرق نواكشوط عاصمة موريتانيا.
* نشأة مدينة ولاته:
يعود تاريخ بناء مدينة ولاته الى القرون الاولى للميلاد، وكانت في البدء تسمى (بيرو) لكنها ازدهرت مع مجيء الدين الاسلامي الحنيف, فأصبحت عقدة للتجارة الصحراوية، واصبحت القوافل تتخذها مركز انطلاق لتجارة الذهب القادم من مالي الى سواحل المتوسط، وربما يحسن بهذا المقام ان نذكر ان الرحالة المغربي ابن بطوطة قد زار ولاته في حدود 726 هـ، اي مع مطلع القرن الرابع عشر الميلادي، وتحدث في رحلته عن الازدهار الشديد الذي تعرفه هذه المدينة بحكم موقعها بين الاقاليم السودانية (مالي) وبين سجلماسة والواحات المغربية، ووصف رخاء معيشة اهلها بقوله (ويجلب اليهم تمر درعة، وسجلماسة، وتأتيهم القوافل من بلاد السودان فيحملون الملح ويباع الحمل منه بولاتن بثمانية مثاقيل الى عشرة ويباع في مدينة مالي بعشرين مثقالا وربما يصل الى اربعين مثقالا وبالملح يتصارفون كما يتصارف بالذهب والفضة يقطعونه قطعا ويتبايعون به). (الرحلة ص 658).
وكان ابن بطوطة يسمي المدينة في رحلته (ولاتن) ومرد ذلك الى طريقة التعريف والتنوين في اللغة الامازيغية التي كان معظم سكان المدينة يتحدثون بها وقت زيارته, ومن هنا اخذ منهم الاسم شفهيا واستخدمه اثناء مدحه لهذه المدينة على امتداد صفحات عديدة من رحلته الشائقة.
ومنذ مطلع القرن السادس عشر الميلادي عرفت مدينة ولاته بداية نهضة فكرية
كبيرة، واصبحت احد اهم مراكز الاشعاع الثقافي العربي الاسلامي، وهاجر اليها
عدد كبير من علماء مدينة تومبوكتو التي عرفت قلاقل وفي نفس الظروف هاجر
اليها علماء ومفكرون من فاس وتلمسان ومراكش، كما استقر بها بعض اهالي توات
بجنوب الجزائر، وبعض العائدين من الاندلس التي سقطت نهائيا بيد الاسبان عام
1492.
والحقيقة ان هذا الكم الهائل والمتنوع من المهاجرين رفد المدينة بمصادرها الثقافية التي بقيت حتى الان وسمح لها في نفس الوقت بأن تتحول خلال القرون الخمسة الماضية الى منارة ثقافية وعلمية وعاصمة من عواصم الفقه المالكي، كما نجد هذه الروافد المختلفة ماثلة في العمارة الولاتية البديعة, وفي عادات سكان المدينة شديدة التحضر وسط عالم صحراء بدوي, يبدو غير مناسب تماما لهذه العادات الحضرية التي استقدمها الوافدون معهم من فاس وتلمسان وغرناطة وغيرها من الحواضر العربية العريقة في العمران والمدنية.
* العمارة الولاتية:
تشتهر البيوت الولاتية بجماليات العمارة العربية الاسلامية خاصة منها الاندلسية والمغربية، ويبدو ذلك من طراز مواد البناء، وايضا في انواع الزخرفة مع جنوح الى البساطة بعض الشيء وميل الى استخدام الخامات المحلية من فخار وجص وجليز وحجارة ملونة عالية الجودة تضمن قوة البناء وانسجامه مع المشهد البيئي العام الذي وضع ولاته فوق مرتفعات الحوض جاثمة بجلالها لقلعة تحرس هدوء الصحراء وتتبرج بجمالها في وجه المرتفعات الشامخة. وقد حاول باحثون غربيون وموريتانيون تفسير معاني لوحات الفسيفساء التي تزين جدران ومداخل البيوت الولاتية، وقد اتفقوا على عودة بعضها لفترة ما قبل الاسلام بما يحمله من اساطير وثنية في حين ان بعضها الاخر اسلامي مغربي اندلسي الملامح لحد يجعل البعض يعتقد انه جلب من فاس او تلمسان وهو امر يكاد يكون متعذر الاثبات او النفي على حد سواء.
والبيت الولاتي يضمن نوعا من التهوية الطبيعية وذلك بتقليله من الابواب، فلكل منزل بابان لا اكثر احدهما مخصص للرجال والضيوف، والاخر للنساء والحريم عامة، كما ان في كل بيت مجلسا يسمى محليا (درب) وهي اشارة الى موقعه كأقرب مكان من باب الشارع حتى لا تقع عين الزائر على الحريم، وللحريم ايضا مجلس يكون بابه داخليا اي متفرعا من احدى الغرف فقط ويسمى (السقفة) ولا يخلو بيت من دور علوي يسمى (القرب)، والسلم الصاعد اليه يكون متسعا لحد يسمح بفناء تحته توضع فيها قدور الماء لتبقى باردة.
* اساطير ولاته:
الاساطير هي ملح المدن التاريخية، ولولاته اساطيرها الكثيرة التي يعود بعضها الى معجزات الصالحين والبلطجية والتجار والجواري وغيرهم ممن حل بهذه المدينة والتي ظلت الاجيال تتناقلها كتراث له مكانته الخاصة عند الاهالي. وتقاطع التاريخ والاسطورة، الحقيقة والخيال، ما كان وما يجب ان يكون, في الكثير من هذه الاساطير والحكايا، وسنورد واحدة منها هي قصة مجيء ولي الله الصالح سيدي احمد البكاي بودمعة الى مدينة ولاته مطلع القرن الخامس عشر الميلادي.
تقول الحكاية ان سيدي احمد سمي البكاي بودمعة لأنه ظل لشدة تقواه وعبادته ظل مدة اربعين سنة يبكي لأن نافلة فاتته، وعندما جاء من الشمال نازحا مع مريديه، نزلت قافلته خارج سور ولاته مساء، وكان السور يغلق عند مغيب الشمس وكل من كان موجودا خارجه تأكله السباع وربما الغول ايضا، وبدافع النصيحة اسرع الاهالي لتنبيه الولي ومريدي، لكنه رفض مبارحة مكانه، وجاءت السباع، وظلت تبصص عند قدميه بأذنابها مسلمة عليه، ولدهشة اهالي ولاته في الصباح عندما وجدوه حيا، طلبوا منه الاقامة معهم، وعندها انتفت السباع نهائيا من المنطقة واخذ الغول والعنقاء عصاهما ورحلا الى الابد.
ومزار البكاي موجود في ولاته وهو احد المعالم الاسلامية وبأحوازها التي تزخر بالكثير من المعالم والمزارات الاخرى الكثيرة.
* نهاية مدينة:
ومدينة ولاته الان معرضة بكل تراثها الاسلامي العريق للغرق بفعل التصحر وزحف الرمال، وهذا هو سبب الحملة الدولية التي اطلقتها اليونيسكو من اجل المدن التاريخية الموريتانية الاربع. وان كانت ولاته اكثرها عرضه لواقع هجرة عدد كبير من سكانها لحد انهم لم يعودوا الان يزيدون على الالفين نسمة، وهم الذين كانوا يزيدون على العشرات من الآلاف منذ عهود سحيقة. ولعل العزاء الوحيد في بقاء هذه المدينة العربية هو نشاط المكتبات والمخطوطات المدعومة لحد ما من اليونيسكو والمعهد الموريتاني للبحث العلمي، وهذا ما سمح بتصنيف بعض مكتباتها التي تحوي آلاف المخطوطات الثمينة التي لا تقدر بثمن على ان البعض الاخر مازال عرضة للإهمال ويعيش حالة مزرية تهدد ان لم يتداركها الغيورون على ثقافة هذه الامة, بأن تنقرض وتصبح اثرا بعد عين مرة واحدة الى الابد.