الفصل الرابع
زلزال بيروت سنة 1173 هـ
جاء في كتاب (تاريخ الشام) للخوري مخائيل بريك الدمشقي (أنه في صباح يوم الثلاثاء في 19 تشرين الأول سنة 1759 مسيحيّة الموافق 9 ربيع الأول 1173هـ قبل الشمس بثلاث ساعات، صارت زلزلة عظيمة بمدينة دمشق مقدار نصف ربع ساعة، وفي الصباح هنّئت الناس بعضها بالسلامة... ثم تواردت الأخبار بأن الزلزلة كانت عظيمة ممتدة في جميع البلاد العربيّة البّر والساحل، من حدّ أنطاكية إلى عريش مصر، مدن وقرى،وراح عالم وبلاد لا تعدّ، والزلزال لم تزل تتكرر وفيما الناس منهم خايفين وغير خايفين، وأناس يقولون بخارات أرضيّة وناس يقولون غضب من الله، لأنه ما سمع من نحو ستماية سنة وأن صارت زلزلة في هذه البلاد.... وفي الليلة الثامنة وعشرين من الزلزلة الأولى، ليلة الخامس عشر من تشرين الثاني ليلة الإثنين إذ حدث بغتة بسرعة زلزلة عظيمة مرهبة مخيفة مقدار نصف ربع ساعة هدمت الحيطان، وهدّت الأركان... وياما حارات وبيوت راحوا واندثروا، وكان هذا غضب من الله على بلاد عربيّة جميعها وبلاد الشام .... من أنطاكية إلى القدس الشريف للعريش كنا نسمع كلام صدق عن الموت الذي وقع، شيء مهول، فإنه ضربت البلاد وفنيت العباد والألوف التي راحت تحت الردم، لا تعدّ ولا يعلم فيها إلا باريها، ولم تزل الزلازل متتابعة إلى مدة سنة، مرة زلزلة ثقيلة وأخرى خفيفة والقلوب رجفانة إلى أن دخل الفنا...).
الطاعون يجتاح بيروت
في سنة 1174هـ 1760م تفشى وباء الكوليرا في البلاد السوريّة، ساحلاً وداخلاً كان الناس في الجيل الماضي يسمون (الكوليرا) الوبا، أو الهواء الأصفر، أو الطاعون. كما كانوا يسمونه أيضاً (الفنا) لأنه كان يُفني أعداداً كبيرة من الناس الذين يصابون به لعدم وجود الأدوية المضادة له، وكانت الوسيلة الوحيدة لتحصين الناجين منه هي إبتعادهم عن المصابين به والإعتزال في البيوت.
وقد أشار الخوري مخائيل بريك الدمشقي إلى هذا الوباء القاتل الذي إجتاح البلاد في السنة المذكورة فقال : (في هذه السنة (1760م) دخل الفنا (الوبا) للشام، وكان قدومه من ناحية عكا، وإستقام في الشام ودايرتها (أي ما حولها) نحو ستة أشهر إلى آخر الصيف. وكان فنا عظيم كبير، وكان حدوده من أراضي غزة والرملة والقدس وبلاد حوران ودايرة الشام وساحل عكا وصيدا وبيروت وطرابلس إلى حدود أنطاكية وكل من تخبَّا وإنحجب بِضبْطٍ سَلِم. وبهذه السنة ظهر في الشام وتخبا النصارى بالبيوت والديورة بغير مانع، وتخبّى إسلام بالمخفي، لذا نظرنا وشاهدنا، وكل من لا يحتجب في أيام الفنا فهو مخالف ومخطي بحد ذاته، لأنها أيام غضب من الله تعالى لأن الله تعالى قال بلسان أشعيا النبي (أدخل يا شعبي إلى مخدعك إلى أن يجوز رجز الرب).
إنهيار كنيسة على من فيها
في سنة 1760م إنتهى بناء كنيسة للنصارى في بيروت تبرع بنفقاتها أحد وجهائهم المدعو (أبو عسكر) وبلغت كلفتها ما ينيف عن خمسين ألف قرش عثماني وفي نهار الأحد الثاني من الصوم عند النصارى، في شهر آذار، بينما كان الناس يحضرون القدَّاس إنهارت هذه الكنيسة على من فيها، ومات يومئذٍ تحت الردم مائة شخصن فكانت كارثة مروعة تأثر بها جميع البيروتيين المسلمين والنصارى وشملهم الحزن على مختلف مستوياتهم وطبقاتهم.
عودة الروس إلى بيروت
بعد الخصومة التي كانت بين الشهابيين وبين ظاهر العمر الزيداني، تصالح الطرفان لمواجهة أحمد باشا الجزار الذي حصَّن بيروت ورفض تسليمها للأمير يُوسُف الشهابي الذي كان قد عيّنه والياً من قبله. قال الأمير حيدر الشهابي في تاريخه : (... فعند ذلك كتب الأمير يُوسُف وعنه الأمير منصور الشهابي كتاباً إلى ظاهر العمر بأن يحضّر إليهما السفن المسكوبيّة المقدم ذكرها لمعونتهما على إزاحة الجزار من مدينة بيروت، وكانت السفن في ذلك الحين موجودة في جزيرة قبرص، وقد إزدادت عن الأول، فأرسل ظاهر العمر كتاباً إلى أمير تلك السفن بأن يحضر إلى قبالة مدينة بيروت لمعاونة الأمير يُوسُف على إفتتاحها. وكان بين ظاهر والمسكوب عهود، وكانت ملكتهم، كاترين الثانية، أصدرت أمراً لسفنها التي في البحر الأبيض بأنها تسير إلى ما يطلبها إليه ظاهر العمر. فلما وصل كتابه إلى أمير السفن، أقلع بها من الجزيرة المذكورة، أي قبرص، وحضر إلى قبالة بيروت. ولما قابلها، راسل الأمير يُوسُف والأمير منصور وجعلا له ثلاثمائة ألف قرش صلة ونفقة على فتوح بيروت وإستخلاصها من الجزار وتسليمها لهما، وكان يقال لأمير تلك السفن (كنتو جونيّ) فشرع في حصار المدينة، وأرسى سفنه على شواطئها، وأقام الحصار عليها براً وبحراً، وطفق يطلق المدافع ليلاً ونهاراً بالتواصل من غير إنقطاع حتى خيّل للناس أن الساعة أقيمت والجبال دُكّت، ودام ذلك الحصار على بيروت أربعة أشهر، فتضايق الجزار ومن معه من شدّة الحصار، وفرغت من عنده الميرات (الأقوات والأغذية) والإقامات وصادفوا جوعاً شديداً حتى أكلوا لحوم الخيل والدوابّ، فعند ذلك أرسل الجزار كتاباً إلى ظاهر العمر يلتمس منه النجاة والسلامة له ولمن معه على أن يسلّم البلدة ويخرج منها بأصحابه وبمن يتبعه من أهلها، فأجاب ظاهر إلتماسه، وخاطب الأمير يُوسُف بذلك، فأجابه بالرضى فيما طلب، فحينئذٍ أرسل ظاهر رجلاً من خواصّه يقال له (يعقوب الصيقلي) فحضر إلى مدينة بيروت فدخلها، وأخرج الجزار وأصحابه ومن تابعه من أهلها بالسلام منها، وسار بهم إلى عكا، وسلّم المدينة إلى الأمير يُوسُف فاستولى عليها وأخذ أسلحة أهلها وجرّمهم جرماً غليظاً.
ولما إستولى الأمير يُوسُف على البلدة، طالبه كونتو جونيّ بالمال الموعود، فدفع له بعضاً وبقي بعض، فوضع كنتو جونيّ رجلاً من قِبَله يقال له إسطفان في القلعة ومعه رجال من المساكبة (أي الروس) على أن يقيم فيها إلى أن يدفع الأمير يُوسُف ما بقي عليه من الثلاثمائة ألف المذكورة. وأقلع راجعاً بسفنه إلى جزيرة قبرص).
إختلاف عسكر الجزار فيما بينهم
في صباح اليوم الثاني من شهر آذار سنة 1794م حدثت خصومة بين الدالاتيّة والمغاربة (عسكر الجزار) وإشتبك الشر بينهم وكانت الأرناؤوط من جانب الدالاتيّة فإنتصرت على المغاربة فقتلوا منهم مقتلة عظيمة حتى كادوا يفنونهم وتبددت العساكر ... وفي إقامة هذه المدة في حرج الصنوبر قطّعت أشجار التوت وخَرِبت البيوت وتعطلت أرزاق لا تقدّر.
فتنة طائفيّة
في سنة 1794م نزل أناس من بلدة زرعون، فقتلوا رجلاً من مسلمي بيروت لأن الأمير بشير الشهابي كان قد أوقف واحداً من الزراعنة إرتكب جريمة القتل وسلّمه إلى متسلم بيروت فشنقه. فأخذ الزراعنة ثأرهم من البيروتيين بعد ذهاب عسكر الجزار، مما أهاج المسلمين في بيروت فراحوا يخطفون كل من صادفوه من أبناء الجبل، وقتلوا منهم ما ينيف عن مائة نفر أكثرهم نصارى.
الطاعون مرة ثانية
في سنة 1794م تفشى وباء الطاعون (الكوليرا) في بيروت وإمتد إلى غالب لبنان وفلسطين ودام نحو ثمانية شهور، إلا أن ضرره كان محدوداً لإحتياط الناس منه.
وبعد أن تخلصت بيروت من سموم الهواء الأصفر، عمها وباء الجدري وإستشرى في نفس المدينة وإمتد إلى ضواحيها، وفقد به أناس كثيرون. وإستمر الناس يعانون من وباء الجدري حوالى السنة بكاملها.
غارة الأورام على بيروت
جاء في مجلة الكشّاف (البيروتيّة) الصادرة سنة 1346هـ 1927م تحت عنوان (منذ مائة عام) ما يلي :
(قيل إن أحد تجّار الشام كان يتشاءم من يوم الأربعاء، وكان أرسل إلى عميل له في بيروت صناديق فيها زبيب وقمر الدين ونقوع وذكر له في كتبه إليه : إني مرسل لك البضاعة وستصل إليك مساء الثلاثاء، فآمل منك أن لا تبيعها يوم الأربعاء، بل أجّل بيعها إلى يوم الخميس، لأن يوم الأربعاء يوم شؤم. واتفق أن الأورام دخلوا المدينة يوم الأربعاء، وكان معظم الناس قد أنهوا أعمالهم ورجعوا إلى منازلهم، فانتهز الأورام الفرصة ودخلوا المدينة وأخذوا في نهبها، وكان من نصيبهم بضاعة ذلك الدمشقي وقد ذكروا أن الأورام أخذوا من أهالي بيروت عدة أسرى من عائلات الحصّ ودسُّوم والتنِّير والعيتاني، وقيل أن عائلة الحصّ إفتدت أسيرها بمبلغ وافر).
إن هذه الغارة قام بها القراصنة الأوارم على شاطئ بيروت في جهة عين المريّسة التي كانت وما تزال مأهولة بالعائلات الإسلاميّة المذكورة في مجلة الكشّاف التي نقلنا هنا الخبر عنها.
وإستكمالاً للفائدة التاريخيّة، فإننا ننقل عن نص كتاب المتولي عبد الله باشا ، وفيما يلي هذا النص :
(إفتخار العلماء الكرام وزبدة الفضلاء الفخام قاضي ومفتي أفندي مدينة بيروت حالاً زبدة فضائله وعلومه وإفتخار الأماجد والأعيان متسلمنا في بيروت وأمين كمركها حالاً ولدنا الحاج سليمان أفندي زيد مجده.
غبّ التحيّة والتسليم بمرسوم الإعزاز والتكريم والسؤال عن خاطركم بكل خير، المَنْهي إليكم : أطلعنا على تحريركم المتضمن ورود أثني عشر مركب من الكفرة الأوارم الخاسرين بحول رب العالمين الواقع ـ بينكم وبينهم ـ وتحريركم بطلب زلام من طرف ولدنا المير بشير الشهابي وإلتماكسم الإمداد من طرفنا بالعساكر والمهمات والزخاير لأجل تقوية بأسكم وخذل هذه الفئة الضالة، جميع ذلك صار معلوم فنخبركم أن مدينة بيروت هي خالص مالكاتنا ولا تحتاج إلى إمداد من طرف أحد إلا من طرفنا وبحوله تعالى وقدرته وباهر جلال عظمته وبمدد روحانية سيّد المرسلين وأنفاس حضرة مولانا السلطان نصره العزيز الرحمن نلحق العسكر بالعسكر وندعى المهمات والزخاير متصلة من باب محروسة عكاء إلى باب بيروت فكونوا شادّين عزمكم ومقوّين بأسكم ولا يدخل عندكم أدنى إفتكار من هذه المادة الجُوْرِية وبهذه الليلة موجهين لكم السروجي بمرسومنا هذا جواباً لتحريركم ومصباح بكرة بعونه تعالى نُسيّر لطرفكم العساكر المقتضية مع البارود والإمداد والزخاير والمدافع فيلزم منكم الإنتباه والتيقّظ ليلاً ونهاراً لحين وصول المهمّات مع عساكرنا المنصورة لطرفكم وأيّاكم من الغفلة بذلك لأن هذه الشرذمة الخاسرة الظاهرة في شدّة ضنك أحوالكم إلى الفرار وقريباً بحوله تعالى يحلّ بهم الإنتقام والدمار ونسأله تعالى نُصرة عساكر الإسلام على الأعداء الكفرة اللئَام وبمنِّه تعالى لا تلزم لكم زيادة تأكيد بكلّما أمرناكم به وإن شاء الله تعالى أنتم المنصورين المؤيَّدين والكفرة هم المخذولين المقهورين وهذا ما لزم إخباركم والسلام 2 آب 241هـ).
حصار إبراهيم باشا لبيروت
في سنة 1247هـ 1831م تقدمت العساكر المصرية بقيادة إبراهيم باشا وبتشجيع من الدولة الفرنسيّة وإحتلت البلاد السوريّة وفي جملتها لبنان. وبالرغم من الإصلاحات الإجتماعيّة والإداريّة التي حققها إبراهيم باشا قائد العساكر المصريّة في هذه البلاد، فإن السكان، لا سيما المسلمين، لم يتعاونوا مع المصريين وحافظوا على ولائهم للدولة العُثمانيّة بإعتبارها دولة الإسلام وعلى رأسها السلطان الذي يحمل لقب الخليفة أمير المؤمنين. وبعد حوالى عشر سنوات، أصبحت القيادة المصريّة في موقف حرج، فلم ترَ بُدًّا من إعلان حالة الحصار في جميع المدن الساحليّة ومنها بيروت بالذات، وذلك لمنع إتصال الأهالي بالدولة العُثمانيّة وحلفائها الإنكليز والنمساويين عن طريق أساطيلهم التي كانت ترابط بالقرب من الشاطئ البيروتي.
وقد أدت حالة الحصار التي فرضتها السلطات المصريّة على هذه البلاد إلى مضايقة السكان المحليين والأجانب. وفي التقرير الذي بعث به أنطونيو كاتافاكو (Antonio Catafago) قنصل النمسا في عكا وصيدا آنذاك إلى قنصل النمسا العام في الإسكندريّة، صورة عن هذا الحصار وتأثيره على بيروت.
بيروت تحت قنابل الإنكليز
إعتبرت بريطانيا وجود المصريين في سوريا خطراً على طريق إتصالها بالهند التي كانت تعتبرها (الدرة الثمينة) في تاج الإمبراطوريّة. لذلك بادرت إلى التحالف مع كل من بروسيّة والروسيا والنمسا لمساعدة الدولة العُثمانيّة على إخراج المصريين من هذه البلاد وإعادتها إلى السيادة العُثمانيّة. ولأجل تبرير الحرب ضد المصريين بغطاء مقبول لدى الرأي العام العالمي، ذكرت هذه الدول الخمس في بيانها الذي أصدرته في ذلك الحين وحفظ في وزارة الخارجيّة البريطانيّة أن الغاية من تدخلها (الحفاظ على سلامة السلطنة العُثمانيّة ولها ، أي الدول المذكورة، ملء الحق في الحفاظ على سلامتها، أي سلامة السلطنة العُثمانيّة، لأن سلامتها من مقتضيات توازن القوى في أوروبا وضرورية لحفظ السلام في العالم). وقد جردت الدول المذكورة أسطولاً لعملياتها الحربيّة مؤلفاً من 21 قطعة حربيّة بريطانيّة معقودة اللواء على السير روبرت ستوبفورد (Robert Stopford) و24 قطعة من سفن النقل التركيّة المرابطة في الميناء و6 مراكب حربيّة نماسويّة يخفق عليها العلمان العُثماني والنمساوي. وفي اليوم التالي لوصول الأسطول، بدأ يصب نيران مدافعه على بيروت، وظل يلقى قذائفه سبعة أيام متواصلة فتهدّم فيها كثير من الأبنية ونُهبت أكثر البيوت ومن جملتها بيت القنصل الأميركي جاسبر شاسود المشرف على الميناء.
وكان من نتائج هذا القصف الشديد أن غادر سليمان باشا الفرنساوي حكمدار العساكر المصريّة بيروت في التاسع من شهر تشرين الأول سنة 1840م بعد إقتناعه بإستحالة إستمرار صموده فيها تاركاً في المدينة فرقة من الجنود الذين اضطروا للإستسلام إلى القوات المهاجمة بتاريخ الحادي عشر من الشهر نفيه.
وبذلك عادت راية الهلال العُثمانيّة إلى سماء بيروت وبقيت فيها إلى أن طويت بصورة نهائيّة عند نهاية الحرب العالميّة الأولى سنة 1337هـ 1918م.