الفصل الخامس
إحصاء عدد الضحايا
ونتيجة لغارة البوارج الإيطاليّة على المدينة والسفن الراسية في المرفأ وقعت الإصابات التالية، كما جاء في السجلات الرسميّة لولاية بيروت في ذلك لحين:
47 شخصاً من أفراد القوات المسلحة البرية والبحريّة إستشهدوا وهم يؤدون واجبهم العسكري.
25 من هؤلاء أُصيبوا بجراح تتفاوت بين الخطورة والبساطة.
56 إستشهدوا أو قتلوا من المدنيين. أكثرهم من سكان وأهالي بيروت وبينهم بعض الأجانب الذين إجتاحهم الإضطراب الذي ساد المدينة أثناء ثورة الجمهور الساخط. ومثل هذا العدد من الجرحى المدنيين، والجدير بالذكر أن هذه الأرقام، أُخذت عن الإحصاءات الرسميّة التي قدمتها المراجع المختصة مأخوذة عن سجلات وقيوم المستشفيات والدوائر الصحيّة التي ساهمت في حينه بإستقبال الضحايا وقامت بواجبها الإنساني نحوهم.
فاجعة بيروت سنة 1901 م
هكذا وصفت الصحف حادثة انهيار بناية أيّاس في بيروت فجر يوم الخميس في 31 أيار سنة 1901م، وقد ذكرت الحادثة في حينها في جريدة ثمرات الفنون التي قالت : في غربي ساحة السمك عند منتهى باب إدريس بناية لبني أيّاس تتألف من ثلاثة طوابق ذات ست دوائر وسبعة مخازن، قيل إن إنشاءها كان منذ 11 سنة، وقد حدث اليوم انهيار البناء على حين غرة من سكانه الذين كانوا مستسلمين للرقاد وغير حاسبين لنكبات الدهر حساباً، وسمع لهذا الانهدام صوت كالرعد، ولم يمض بضع ثوانٍ حتى دُكَّت الطوابق الثلاثة فوق بعضها البعض.
وقد كان لهذه الحادثة دوي كبير في أوساط الرأي العام البيروتي آنذاك وتردد صداها في داخل بيروت وخارجها لكثرة الضحايا الذين دفنوا أحياء وهم نيام تحت أنقاض البناء المتهدم.
الطاعون يجتاح بيروت
في سنة 1320هـ في بداية القرن الميلادي العشرين حل الطاعون ضيفاً ثقيلاً في مدينة بيروت، كان شديد الوطأة، إذ أن المجتمع البيروتي في مطلع هذا القرن كان يعاني من مرضين، أحدهما ضرب الناس في صحتهم الجسديّة والآخر ضربهم في أوضاعهم الأمنيّة.
السبت الأسود سنة 1903م
في يوم السبت ليلة الأحد من شهر أيلول سنة 1903م اضطربت بيروت، حين تبادل أهل البسطة مع أهل المزرعة اغتيال بعضهم بعضاً في الشوارع ومنعطفات الطرق وداخل الزواريب الملتويّة وارتفع عدد القتلى آنذاك من الطرفين حتى بلغ بضعة عشر شخصاً، الأمر الذي أثار الذعر في البلد وحمل أهل القلم على كتابة المقال تلو المقال في الدعوة إلى حقن الدماء وصيانة الأرواح والحفاظ على أمن البلد وصيانة المجتمع البيروتي من عبث العابثين براحته واستقراره، ولقد كان للشعر في هذه الدعوة نصيب إذ تبارى الشعراء في ذلك الحين في نظم القصائد التي عبّروا فيها عن تفجعهم على مصير البلد.
حريق الكازخانة
كانت الكازخانة، وهي مستودعات الكاز كما كان يسميها أبناء الجيل القديم، في محلة المدوّر، وحدث أن اشتعلت فيها النيران سنة 1904م، وقد رُوِّع البيروتيون عند حدوث الحريق واتخذوا من يوم حدوثه تاريخاً لوقائعهم وولاداتهم على عادة الناس قديماً في اعتماد تواريخهم على الأحداث البارزة التي تمر بحياتهم، فكان البيروتيون يؤرخون لمواليدهم بيوم حريق الكازخانة، أو بيوم ضرب الأسطول الطلياني لبيروت، أو بيوم الحريّة (المشروطيّة).
حمَّى التيفوئيد
في سنة 1910م تفشى مرض التيفوئيد في بيروت وعمّ بلاؤه بين البيروتيين حتى كان الناس يموتون زرافات ووحداناً بهذا الداء الخبيث نتيجة الإهمال وعدم الوقاية وانعدام النظافة في البلد، وقد نظم الشاعر المهجري الساخر أسعد مخايل رستم بهذه المناسبة قصيدة أودعها انطباعاته عن حالة البيروتيين تحت وطأة هذا المرض الذي دخل إلى أكثر بيوتهم ولم يغادرها إلا بعد أن أخرج منها عشرات الضحايا من الكبار والصغار والنساء والأطفال، وفي ما يلي مختارات من قصيدة أسعد مخايل رستم الذي أرخ الوباء المذكور على طريقته في الانتقاد الساخر الذي وجهه بهذه المناسبة إلى حكّام ذلك الزمان، قال هذا الشاعر تحت عنوان (التيفوئيد وبيروت) :
فكلا الحالتين التيفوئيــــــدُ | أصداعٌ أم انحلال شديـــد |
طبيباً إنما عندك الدواء المفيــدُ | فنمْ، ولا تدع للعــــلاج |
وقبل الشهر والنصف لا يجوز القعودُ | هو أن تكْدِش الفــــراش |
مُحِلٌّ وسكون وإن تشاء محمـــودُ | فاضطجاع على الفـــراش |
فنزول طوراً، وطوراً صعـــــودُ | غير أن الحمّى تروح وتأتي |
فبالثلج يلزم التبريـــــــــدُ | وإذا زادت الحرارة في البطن |
وأرزّاً فقد تموت البعيــــــــدُ | وإذا ما أكلت خبزاً ولحمــاً |
ماء وحليب، عليهما لا مزيـــــدُ | والطعام المفيد شيئــــان |
فوق بيروت ظله ممـــــــدودُ | والتيفوئيد حاكم مستبـــدٌّ |
ينفعك يؤذي بأهلها المقـــــرودُ | فطاب فيها له المناخ فمــا |
والأعضاء، وما لديهم نقــــــودُ | كيف يرجى من الرئيسيــن |
لامكنس عندهم ولا مجــــــرودُ | ولتنظيف ذي الشــــوارع |
بمصاري الرسوم ، ليس يجــــودُ | وفريق من الأهالي مصّـــر |
ضرب الطليان لبيروت
في صبيحة اليوم الرابع والعشرين من شهر شباط سنة 1912م، كانت بيروت فريسة عدوان بربري غاشم صب عليها وابلاً من القنابل المحرقة، أطلقتها السفن الحربيّة الإيطاليّة دون أن تراعي حرمة المدينة المفتوحة، متحدية كل قواعد الفروسيّة العسكريّة، ومبادئ الأخلاق الإنسانيّة ومفاهيم الحضارة والتمدّن، ففي الساعة الخامسة من صباح ذلك اليوم المشؤوم، كانت السفينتان الحربيتان الإيطاليتان غاريبالدي وفيروشيو تنتهكان حرمة المياه الإقليميّة لمدينة بيروت، عاصمة الولاية العُثمانيّة التي وُصفت بأنها درة تاج آل عثمان، وبعد أن اطمأنتا إلى موقعهما الإستراتيجي ألقتا بمراسيهما في البحر وإنطلق منهما ضابط إيطالي شرس وفي يده الإنذار الموجّه إلى الوالي العثماني حازم بك أفندي، طالبين تسلّم الطراد (عون الله) والنسّافة (أنقرة)، وكان موقعهما داخل المرفأ بين بقية السفن التجاريّة العاديّة.
بعد مفاوضات ومباحثات بين الضباط العثمانيين والأميرال الإيطالي، بدأت الحمم تنطلق على بيروت وتحديداً في منطقة المرفأ بقصد إغراق البارجتين عون الله وأنقرة، أما شظايا القنابل فكانت تتبعثر هنا وهناك لتحصد أرواح السكان الأبرياء الذين تدافعوا خارج محلاتهم وبيوتهم هائمين على وجوههم بين هارب من الموت المحقق أو ثائر يطلب القتال دفاعاً عن الأهل والوطن، فقد هبّ الرجال متمنطقين بالبنادق التي طالتها أيديهم من الثكنات العسكريّة، واتجه الجميع نحو المرفأ ليبلغوا إحدى الحسنيين إما سحق العدو اللئيم أو الاستشهاد في سبيل الله والوطن والسلطان، ومن المؤسف أن عدداً كبيراً منهم تجمهر عند رصيف المرفأ حيث أطل عليهم المرحوم الشيخ أحمد عمر المحمصاني أحد علماء بيروت، من شرفة دائرة البسابورط وراح يخطب فيهم مثيراً حماستهم الدينيّة ومهيجاً نخوتهم الوطنيّة، مما أدى إلى وقوع المزيد من الإصابات والضحايا نظراً لقرب هذا الجمهور من هدف المدافع الجانية، وكان قد فرّ من بيروت بعض من العائلات الإسلاميّة التي قصدت إلى الأراضي الواقعة في دائرة متصرفيّة جبل لبنان، ووجدت في بيوت إخوانهم النصارى من الترحاب والعطف والإكرام ما جعلها تنسى آلامها وجراحاتها ومصائبها وتلهج بالثناء والشكر على هذه المعاملة التي أكدت روح الأخوّة الوطنيّة بين جميع المواطنين على اختلاف مذاهبهم وأديانهم، أما الذين لم يتمكنوا من الأهالي من مبارحة بيروت بسبب إصابتهم أو عجزهم أو فقرهم، فإنهم أُحيطوا برعاية الوالي حازم بك أفندي ورجال الإدارة والأمن، كما أن أهل النخوة والحميّة من فتوَّات البلد المعروفين بالقبضايات أمثال : خليل عبد العال، أحمد الشرقاوي، محمود الشرقاوي، أبو أحمد الجاك، والحاج حسين خريرو، وغيرهم من هذه الطبقة الشعبية المشهورة باندفاعها للنجدة والإغاثة وصدق الغيرة الدينيّة، فإن هؤلاء لم يقعدوا عن أداء دورهم الإنساني في تلك المناسبة الحرجة وساهموا في إبعاد النساء والأطفال عن مواطن الخطر ونقل الجرحى ودفن الضحايا غير عابئين بالقذائف المميتة التي واصل الطليان إطلاقها على المدينة على غير هدى ولا تمييز بين الأهداف العسكريّة ومنازل السكان.
إنتشال مدافع السفن الغارقة
وبعد أن هدأت العاصفة وبارحت البوارج الإيطالية المياه الإقليميّة إلى عرض البحر، تولى بحارة بيروت انتشال المدافع التي كانت على ظهر السفن الغارقة، فاستحقوا صدور الإرادة السلطانيّة بمنحهم الوسام المجيدي الرابع، وجميعهم من أهالي بيروت وذلك مكافأة على ما أبرزوه من الغيرة والحميّة في سبيل إخراج المدافع من البارجة (عون الله) التي غرقت في ميناء بيروت.
وهؤلاء هم الأغوات والأفنديّة : أحمد الشرقاوي، الحاج خليل عبد العال، إبراهيم البلطجي، محمود الشرقاوي، خليل الشرقاوي، حسين خريرو، أبو أحمد الجاك، محيى الدين عز الدين، مصطفى الشرقاوي، الحاج رشيد رمضان، الحاج محمد رضا، عبد الفتاح الغطيس، سيِّد خضر.
وقامت السلطات العُثمانيّة بتقديم مكافآت نقدية للذين حافظوا على أرواح السكان، وقام الوالي حازم بك بتسليم مبلغ خمس وعشرين ليرة ذهبيّة إلى كل من عبد الغني العشي من خفراء الريجي، وعبد الحليم رمضان من أفراد العسكريّة، وهو المبلغ المنعم به عليهما بسبب محافظتهما على القنصلين الروسي والإنكليزي.
الآثار السيئة للعدوان
لقد أحدث العدوان الإيطالي رد فعل عنيف في أوساط الأهالي الذين وقعوا تحت تأثير الإنفعالات الحماسيّة المتطرفة، فهاجموا مستودع الرديف في الثكنة العسكريّة (حيث كانت سراي الحكومة قديماً) وأخذوا منه بالقوة حوالي ألف وثمانمائة بندقية من طراز الموزر وتسعة وتسعين صندوقاً من الذخائر الحربيّة وإنتشروا في المدينة بشكل أثار الإضطراب والقلق.
إلا أن الوالي حازم بك أدرك خطورة وجود السلاح بأيدي الشعب والمدنيين، ولا سيما بالنسبة للمواطنين من النصارى الموجودين في المدينة فعمل مع المرحوم الشيخ مصطفى نجا، مفتي البلد في ذلك الحين، على حصر هؤلاء المسلحين في مكان واحد. وإشترك الاثنان، الوالي والمفتي، في إقناعهم بالتخلي عما في أيديهم من الأسلحة وتسليمها إلى السلطات المختصة لتتولى هي القيام بواجباتها في معالجة الأزمة الطارئة.
ولقد كان لهذه المساعي الحميدة أبلغ الأثر في تسكين الهياج وإشاعة الطمأنينة وخصوصاً في أحياء النصارى وأوساط الجاليات الأجنبيّة الذين كادوا يتحملون وزر العدوان الإيطالي الذي كان بنظر أبناء بيروت عدواناً نصرانيّاً لصدوره عن دولة نصرانيّة على الدولة العُثمانيّة، دولة الخلافة الإسلاميّة.
على أنه لم تخلُ المدينة خلال فترة الإضطراب من بعض الحوادث الفرديّة التي كاد يذهب فيها بعض (لابسي البرانيط) من الأجانب بذنب غيرهم. إلا أن الوالي تدارك هذه الحوادث من أن تتسع وتتفاقم وتتطور بإعلان الأحكام العرفيّة في حدود مدينة بيروت فقط، وحظر على الأهالي الخروج من بيوتهم في أوقات معيّنة، كما حظر عليهم حيازة الأسلحة ونقلها تحت طائلة العقوبات الشديدة !.
ولم تكتف السلطات العُثمانيّة بالتدابير الإحترازيّة لمواجهة أعمال العنف، بل إنها قامت بتقديم مكافآت نقديّة للذين حافظوا على أرواح الناس من عدوان المحتجين.
وبعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وأصبحت البلاد السوريّة بكامل حدودها الطبيعيّة في قبضة جيوش الحلفاء واحتلتها وتقاسمتها فيما بينها، وأعلنت فرنسا بلسان المندوب السامي الجنرال غورو قيام الكيان اللبناني، أجمعت أصوات أهالي لبنان منددة بجمال باشا واعماله التي وصفوها بالطغيان والإجرام، ولما علمت الصحافة اللبنانيّة بأن حكومة أفغانستان كلّفته بتنظيم جيشها الذي يقاتل الإنكليز، وأنه قصد فرنسا لتأمين السلاح لهذا لجيش، وأن فرنسا أحسنت استقباله وأجابته إلى طلبه، فإن هذه الصحافة عتبت على الفرنسيين، فما كان من هؤلاء إلا أن سمحوا للّبنانيين بتأليف محكمة لمحاكمة هذا القائد وجعلوا على رأس هذه المحكمة القاضي سعيد زين الدين، والد السيدة نظيرة زين الدين زوجة الزعيم اللبناني كمال جنبلاط، وبالفعل فإن القاضي المذكور أخذ الموضوع على أنه جِدٌّ وأصدر حكمه الغيابي بإعدام جمال باشا، ولكن هذه الحكم التمثيلي لم يستطع أحد من اللبنانيين تنفيذه بالفعل، بل تولى هذه الأمر بالنيابة عنهم، أحد الفدائيين الأرمن. وفي كابول عاصمة أفغانستان دعا أميرها جمال باشا إليه وعيّنه مستشاراً للجيش الأفغاني،وفيما كان في مدينة تفليس عاصمة كرجستان بروسيا لاحقته دوائر الاستخبارات الإنكليزيّة وكلّفت الفدائي الأرمني أسطفان زاغيكيان باغتياله، مستغلة نقمة الأرمن عليه للتخلص منه بيد أحد أبناء هذه الطائفة التي لاقت الويلات أيام الحكم العثماني، فأطلق هذا الفدائي عليه الرصاص وأرداه قتيلاً.