حوادث بسيطة قد تمر بحياتنا، لكن لا أحد يتصور أنها قد تجرفنا إلى طريق آخر، ربما نجد فيه سعادتنا، أو ينتهي بنا إلى كارثة لا نتوقعها.
بديهيات فشل الفيلسوف فردريك نيتشه في تعرية مشاعره والتسليم بها، إذ أضاع عمره كله مؤمناً بفلسفة "القوة"، والدعوة لمجتمع "السوبر مان"، بمعنى أن تعمل الحكومات على التخلص من الضعفاء والمرضى، وتبقى فقط على الأقوياء الأصحاء لكي ترتقي وتزدهر. فالضعفاء يستهلكون جهد الأقوياء، ووقتهم، وفي هذا استنزاف لثروات المجتمع.
وعندما كان في زيارة لشمال إيطاليا، رأى حوذياً يضرب حصانه بلا هوادة لأنه عجز عن جر العربة في طريق صاعد. فأشفق نيتشه على الحصان، وأسرع بدفع العربة مع المارة، صاباً جام غضبه على الحوذى غليظ القلب، ثم اكتشف فجأة فداحة خطئه، فندم ندماً شديداً، وتراجع عن فلسفته التي أذهبت بعقله.. وقتلته.
أما الدكتور عيزرا خزام، فلم يكن يشك للحظة أن "جنة" التي تعشقه لدرجة العبادة قد تسعى لتدميره، وقتله. لذلك .. استعذب تلهفها عليه وتذللها له.. وفي أعماقه كان يغمره انتشاء محبب كلما رآها خاضعة مستسلمة ... خائرة أمام حبها... وخوفها من ذلك المجهول المتوثب المنذر بالخطر.
كان طوال خمس سنوات قد مل مذاقها، وأصبح هاجسه الأكبر هو السعي بإخلاص لخدمة إسرائيل. لهذا .. نبذ حبه القديم منذ اقتحم عالم الجاسوسية، وخطا فيه خطوات تفوق ما كان يعتقد في نفسه، وقدراته. إلا أن حادثاً عابراً بدل فجأة كل شيء، وعجل بالنهاية.
لقد توقف ذات نهار بسيارته في إحدى إشارات المرور ببغداد، وبينما ينتظر الإشارة الخضراء، لمح فتاة ساحرة تعبر الشارع، كانت قسماتها تفوق الآلهة "عشتروت" جمالاً، خطواتها الرشيقة كظبي، يحجل طرباً فيزداد حسناً. فتسمر مكانه يتابعها بنظريه منجذباً، وطاردها من بعدها بإصرار صياد لا يهمد.
كانت الفتاة قبطية تدعى "زهيرة"، صبية في ريعان شبابها، غضة بضة، تسلب العقل والفؤاد. تقدم الدكتور عيزرا لخطبتها باذلاً أمواله لاسترضاء أهلها، مستعداً للتخلي عن يهوديته فور إعلان الموافقة.
أحست جنة بنفوره منها، برغم مشاعر الحب الفياضة التي تغدقها عليه، وبحاستها الأنثوية أدركت بأن هناك امرأة. وبدأت رحلة البحث عنها حتى وقفت على الحقيقة المرة، فصعقتها الصدمة، وزلزلت ما بقي عندها من أمل ضعيف. ولما طالبته بأن يقطع علاقته بزهيرة ويتزوجها، سخر منها قائلاً:
Ø المرأة التي اعتادت كل الرجال يشق عليها أن تكتفي برجل واحد.
صرخت في حدة:
Ø عيزرا ... ماذا تقول؟ أنت تعرف بالقطع أنه "عملي"... وليس حباً في الرجال.
قال فيما يشبه التهكم:
Ø نعم ... أعرف ذلك... وأعرف أيضاً أن "عملك" انقلب إلى "هوس" ما له من علاج.
صارخة وقد تحشرج صوتها:
Ø هوس؟ أتسمي ما يحدث بيننا هوساً.. ؟
Ø جنة...
تقاطعه:
Ø خمس سنوات وأنا أمنحك نفسي... أتظنني "مريضة" لا حل لي؟ ... ماذا.
قال في حدة:
Ø جنة ... أرجوكي ...
Ø ألأني أحبك أكثر من نفسي ... وأعمل كل ما يرضيك ويسعدك توصمني بالشذوذ؟
إذن ... ماذا كنت تظنني أفعل مع طوابير أتباعك وزبائنك؟ أأكون الداعرة المهذبة؟ هم يرونني مهووسة .. فكنت أفتعل ولا أنفعل ... كنت أمنح ولا أُمنح... أنت بنفسك طلبت مني مرات ومرات أن "أُمثل" جميع الأدوار .. أنسيت ذلك ... ؟ أم أنك زهدت فيّ؟
Ø حببتك يوماً ما وطلبتك للزواج فتمنعت.
Ø "يوماً ما" ؟ أكنت تكرهني طوال السنوات الفائتة؟ لماذا إذن كنت تعاشرني حتى شهر مضى؟
Ø كفى ... كفى ... جنة ...
Ø لا ... أريد أن أعرف يا عيزرا .. أرجوك، لا تخجل من مصارحتي .. أرجوك قلها لأستريح.
Ø لا وقت للحديث الآن .. وراءنا عمل ينتظرنا...
Ø عيزرا ... سأنسى كل ما قلته الآن .. لكن، عاهدني أن تكون لي .. ستجدني خادمة لك ... أنا أحبك فلا تذبحني بسكين بارد أكثر من ذلك...
Ø جنة . قلت لك كفى الآن . فما عساك تريدين؟
Ø نعم يا عيزرا ... هذا يكفي، لكن عليك أن تعلم أنني متعبة وبحاجة للراحة بالمنزل، فلا تطالبني بأي عمل الآن على الأقل.
ومصدومة، محطمة، منكسرة، لملمت بقاياها، وذهبت إلى السلطات تطلب السماح لها بالسفر إلى إيران للعلاج ، وبعرضها على القومسيون الطبي، تبين أنها سليمة من الأمراض التي تستدعي السفر إلى الخارج.
لزمت جنة بيتها في محاولة "لتجميع" ذاتها المهرئة، إلى أن حدثت كارثة يناير 1966، عندما ألقي القبض على "زالة" العميلة اليهودية، أثناء اقتحامها مقر شركة الإنشاءات ليلاً.
لقد اعترفت "زالة" بحداثتها في عالم الجاسوسية، وبأن شريكها الذي مات بالسكتة القلبية في الشارع لحظة القبض عليه، هو رئيسها المسؤول عنها "ضابط الحالة". وأن التكليفات تجيء من عبادان لباقي أعضاء الشبكة الذين لا تعرفهم.
ومع إعادة التحقيق معها عدة مرات، أوضحت بأن هناك طبيباً يهودياً لا تعرف اسمه الحقيقي كان يأوي رئيسها الذي مات.
قامت أجهزة الأمن باعتقال عدد كبير من الأطباء اليهود المشكوك في تصرفاتهم وولائهم، ووضعتهم رهن التحقيق والاستجواب. وكان من بينهم الدكتور عيزرا خزام.
ولما علمت جنة بأمر اعتقال عيزرا، سيطر عليها الرعب والهلع، وفكرت في نهايتها إذا ما اعترف، وباتت تنتظر كل لحظة طرقات رجال الأمن على بابها. فانضوت هلوعة، ذابلة، زائغة البصر.
وبينما تقلب الصحف بحثاً عن أخبار تهمها، قرأت تصريحاً لمسؤول كبير تعهد بمكافأة سخية لكل من يدلي بأية معلومات، تؤدي للقبض على جاسوس، وحماية أي عراقي يبلغ عن تورطه في أعمال جاسوسية، مهما كان حجمها.
قامت جنة على الفور وبدلت ملابسها، ثم غادرت منزلها إلى وزارة الداخلية، وطلبت مقابلة المسؤول الكبير لأمر هام فسمح لها ... وأحست بصدق نبرته وهو يعيد تأكيد ما صرح به للصحف، فاعترفت تفصيلياً بأمر الدكتور عيزرا، وقصتها مع الخيانة.
هكذا كشفت كل الأسرار والخبايا، وهدمت المعبد على من فيه، إذ ألقي القبض على اثنى عشر جاسوساً في شبكة عيزرا وتكشفت حقائق مذهلة عن تورط العديد من اليهود العراقيين، وانخراطهم في عمليات تجسس ليس بنية العمل على تهجير اليهود فحسب، إنما طالت الأسرار العسكرية وكل نواحي الجيش في العراق.
وكانت وقائع المحاكمة عجيبة... والأحكام التي صدرت أعجب... فقد صدر الحكم بإعدام الدكتور عيزرا وعبد الجبار رمياً بالرصاص، والشنق والحبس للباقين الأحد عشر... أما جنة المصدومة ، فقد حكم عليها رأفة بالسجن خمسة أعوام.
أما زهيرة، فقد عادت من جديد تجوب شوارع بغداد كغزال شارد، تطاردها الأعين الجائعة، فلا تلتفت أو تنصت، خوفاً من الوقوع في غرام جاسوس... آخر .. !!