فمنذ ترعرع يعقوب يوسف جاسم، تراوده أحلام العظمة، وهو يعد أقرانه دائماً بأنه سيصبح ذا شأن عظيم في يوم من الأيام.

لكنه تعثر في الدراسة وحصل على الشهادة الإعدادية بشق الأنفس، وبرغم ذلك لم تفارقه أحلامه وهواجسه التي سيطرت على حيز كبير من عقله ومسامراته.

وبعد ما استقر به المقام في عمله بمحطة كهرباء بغداد، استشعر تفاهته، وغامت حوله الرؤى، فالواقع الذي يعيشه لا ينبئ أبداً بضربة حظ قد تقتلع عذاباته، أو تصعد به إلى سفوح الوجاهة والعظمة.

لذلك استكان يائساً مستسلماً، نافراً من واقعه ومن أحلامه، مودعاً وإلى الأبد مجداً بناه في الخيال.

وذات يوم من أيام سبتمبر 1963، حزم حقيبته وعبر الحدود إلى إيران لقضاء أسبوعين على شاطئ بحر قزوين، فهي منطقة تتميز بمناظرها الطبيعية الخلابة، التي تمتد من جبال "البورز" إلى البحر، وتسقط أمطارها صيفاً لتجعل الطقس ندياً رائعاً، حيث شواطئ "أستارا" و "رامر" وموانئ "بندر بهلوي" و "بابلر" و "نوشهر"، فتبدو الأجازة بهذه المنطقة كأنها رحلة إلى كوكب آخر، يتسق فيه لون الماء وخضرةالزروع على درجاتها، فتشكل قطعة فسيفساء جمعت أبهى مظاهر الجمال والرونق.

وحينما وصل يعقوب إلى شاطئ رامر، أذهله جمال الفاتنات يرتدين البكيني، ويمرحن على الشاطئ في دلال... فقبع صامتاً يتأمل ويغرز سهام رغباته في أجسادهن، فتعتريه نوبات من أحلامه السابقة، لكنه سرعان ما يطردها شر طردة.

تحت إحدى المظلات استغرقه تفكير عميق، نأى به عن بانوراما الحسن التي أمامه، حتى أفاق على من يقول له:

Ø     "درود برشما، آيا شما إيراني هستيد" – (السلام عليكم، هل أنت إيراني؟)

ارتبك يعقوب أكثر عندما بادره الرجل ثانية:

Ø     "أياشما زبان فارسي ميدانيد؟" – (هل تعرف اللغة الفارسية؟)

أجاب يعقوب مرتبكاً:

Ø     نه ... . من عراقي هستم – (لا ... أنا عراقي . أجهل الفارسية)

انفرجت أسارير الرجل في دهشة وأردف:

Ø     هلا بك في إيران.

كانت لهجته الشامية بشوشة مرحة، وعرفه بنفسه قائلاً إنه لبناني واسمه "مازن" يقيم في طهران ويعمل بالاستيراد والتصدير، وبعد برهة أقبلت سكرتيرته الإيرانية "زالة" ترتدي المايوه الأورانج، فغاص يعقوب في ارتباكه وهي تصافحه مرحبة، ودعاه مازن إلى العشاء معه بفيلته المطلة على الشاطئ من عل، تحاصرها لوحة فنية من الزهور والأشجار، وتنم رقيقة في حضن الجبل، الذي يبدو في الليل كشلال متدفق من الأضواء الملونة.

كانت الأمور تسير في يسر حيث استقبله مازن بشوش الوجه ومعه آخر يدعى "رماء"، وأقبلت زالة كعروس من السماء، بصحبتها إيرانية أخرى تدعى "كوكوش" والاثنتان تتحدثان العربية بطلاقة.

وبعد العشاء دارت الكؤوس وثقلت الرؤوس، وألمح إليه مازن أن كوكوش وقعت في هواه، وبدا هذا واضحاً من نظراتها واهتمامها الزائد به، وحينما هم يعقوب بالانصراف إلى الفندق، أصر مازن على أن يبيت معه، وكانت نظرات كوكوش المثيرة ترجوه أن يبقى، وجلست إلى جواره تلاطفه فأذهبت بقية ما لديه من وعي، ثم صحبته إلى حجرة علوية، وأغلقت بابها من الداخل، وشرعت في خلع ملابسها قطعة قطعة.

أسقط في يد الأعزب الحالم الثمل، وبينما كان ينزف رجولته، كانت هناك كاميرات تصور وأجهزة تسجل الأحاديث السياسية، وتنقل كل شيء إلى حجرة مازن ورماء ضابطي الموساد.

تكررت السهرات وحفلات الجنس فأيقظت هواجس يعقوب من جديد، عندما عرضت عليه عميلة الموساد الانضمام إلى أسرة العاملين بشركة مازن، سألها كيف؟ أجابته بأن الشركة تبحث إقامة فرع آخر ببغداد، ولكي يتحقق ذلك، لا بد من معلومات وافية عن الاقتصاد العراقي وحركة التجارة. وبيده كتب عدة صفحات تتضمن معلومات كثيرة تشمل نواحي اقتصادية تافهة من خلال قراءاته في الصحف، وفوجئ بقبوله للعمل كمدير لفرع بغداد.

لم يصدق يعقوب نفسه، فها هي أحلامه تتحقق أخيراً، وتضحك له الدنيا من جديد، وبدلاً من الجلوس على الشاطئ للاستجمام، جلس كتلميذ مؤدب أمام معلم مازن يشرب فنون الجاسوسية ودروسها الأولى. واستفسر يعقوب باندهاش عن علاقة الجيش والعسكرية، بشركة تعمل في مجال الاستيراد والتصدير، فأجابه مازن بأن الأسرار العسكرية في العراق مهمة جداً له. فهو لن يجازف بإقامة فرع بغداد طالما كانت هناك "نوايا" معينة لدى حكام العراق.

لم يقتنع يعقوب بالطبع، لكنه اضطر إلى الإذعان أملاً في رفع شأنه كما كان يحلم منذ صغره.

المخزن رقم (3)

انتهت مهمة كوكوش عند هذا الحد، ورحلت إلى طهران بعد انقضاء المرحلة الأساسية، أما يعقوب، فقد عاد إلى بغداد كشخص جديد، متقمصاً دوره كرجل أعمال مهم، بجيبه 1200 دينار عراقي مرتب ثلاثة أشهر مقدماً، وكان وفياً جداً لأستاذه ورئيسه مازن. إذ لم يفصح لمخلوق عن مهمته، أو عما حدث له على شواطئ بحر قزوين، وانخرط في جمع المعلومات عن أحوال السوق العراقية، واتجاهات النمو الاقتصادي في شتى المجالات.

وبعد خمسة أشهر سافر ثانية إلى طهران، يحمل هذه المرة تقارير اقتصادية متنوعة، ويحدوه الأمل في أن يصبح ذات يوم من أشهر رجال التجارة ببغداد حتى إذا ما قابله مازن، عرفه بإيراني اسمه "عبد نابلون"، اصطحبه إلى فندق كبير بشارع "ورزش" شمالي "بارك شهر" في طهران، وشرع في استجلاء ما لديه من أخبار وتقارير.

كان يعقوب يفيض حماساً وهو يشرح لنابلون تفصيلياً عن العراق وانفتاحاته التجارية، مستمداً معظم تقاريره من أبحاث هامة نشرتها الصحف لكبار العقول الاقتصادية وخبراء التجارة.

لكن عندما عرج نابلون إلى الحديث في السياسة والشؤون العسكرية والتسليح، أظهر يعقوب جهله وعدم اهتمامه، حتى إذا ما أحس نابلون بأن الوقت مناسباً تماماً لمهمته، فاجأ يعقوب بالحقيقة. حقيقة أنه يعمل لصالح الموساد، ولا بد له من استثمار كل معلومة ولو كانت تافهة، ما دام سيحصل على ثمنها.

صعق يعقوب وتلجم لسانه... بل إنه عجز عن السيطرة على نفسه وقد اندفع بوله ساخناً بين ساقيه. إذ استغل نابلون أتسرع طرق السيطرة بواسطة الصدمة الفجائية، الصدمة التي تذهب بالعقل وبالشعور، ويصبح الإنسان لحظتئذ عاجزاً تماماً عن التفكير .. أو النهوض ... أو المقاومة...

هكذا سقط يعقوب في براثن الموساد لا حول له ولا قوة... حاول أن يفك قيود العنكبوت التي كبلته، لكن نابلون كان واثقاً من نفسه... ومن قدراته... ومن مواهبه في الإخضاع لدرجة الطاعة. فالصور العارية والتقارير التي كتبها بخط يده، كفيلة بأن تسكت صدى الرفض عنده لأن الإعدام في بغداد ينتظره إذا لم يذعن، ولم يكن أمام يعقوب إلا الإذعان، ضعفاً... وخضوعاً .. وخوفاً. فلم يعد هناك أي مهرب ... أو سبيل للفكاك.. هكذا تصور.

وجاءت "فروزندة وثوقي" عاملة الفندق – لتقف في طريق العراقي التائه ... المضلل. جمالها الرائع شغل عقله، والتصاقها به أيام محنته قربها إليه. فقد كانت هي الملاذ الحنون الذي يحوي انفعالاته... وشجوته، ويمتص غضبة الخوف الجاثم فوق حياته.

لذلك... تحدث معها طويلاً، وصارحها برغبته الملحة في الزواج منها، وساعدته أموال الموساد على الارتباط بالفتاة التي دُست عليه، والعودة بها إلى العراق.

وبهذا الزواج فُتحت أمامه أبواب الدخول إلى إيران في أي وقت، وضمن الموساد بزواجهما تدفقاً كبيراً في حجم المعلومات التي سيحصل عليها، فالعميلة الزوجة... مدربة تدريباً عالياً على القيام بمهام تجسسية معقدة تعود بالنفع في النهاية على إسرائيل.

وفي بغداد، بدأ يعقوب يمارس مهمته في استكشاف أسرار الأسلحة التي تزود بها العراق الأردن، أنواعها وأعدادها ووسيلة نقلها إلى عمان، وعجز الجاسوس في بداية الأمر عن التوصل إلى أية معلومات، حتى تقابل مع العريف "نوري سوار" المجند بإحدى القواعد العسكرية، فأغراه بالمال، وبطرق مختلفة حصل منه على قوائم كاملة بالمعدات التي زودت بها الأردن.

وحينما لاحظت فروزندة أن زوجها دأب على اصطحاب نوري معه إلى المنزل، بغية استثمار جمالها في تليينه، تعجبت من غبائه، فهو لم يشك للحظة أنها عميلة للموساد، وجاهزة للسيطرة على أي عقل يريد وتركته يلجأ إليها شيئاً فشيئاً لتعاونه في مهمته، حينئذ وجدها يعقوب الزوجة المطيعة... التي توافقه رأيه وتشاركه عمله السري.

بدأ الاثنان معاً في البحث عمن يجيء بأسرار المخزن رقم في بغداد، فأمر هذا المخزن حير الموساد كثيراً، وفشل جواسيس كثيرون من قبل في استجلاء سره، وكان تخطة فروزندة تتلخص في التعرف على أحد الضباط العسكريين بطريق الصدفة في شوارع بغداد، عندها... تسأله عن مكان ما بلغة عربية ركيكة، فيضطر الضابط إلى إرشادها، ويحدث بينهما تعارف أثناء السير.

وخرجت فروزندة لتتصيد ضحيتها الأولى. وكان ضابطاً برتبة نقيب اسمه أحمد رافع، ما إن استوقفته لتسأله عن أحد الشوارع، حتى سارع بمرافقتها بأدب. وخلال الطريق حدث تعارف بينهما، وعندما أوصلها إلى المكان المطلوب، كان زوجها ينتظرها كما خططا لذلك، فشكر الضابط الشاب لشهامته وأصر على أن يقبل دعوته للزيارة.

وبعد أيام طرق رافع الباب ليجد فروزندة وحدها، و "ادعت" أن زوجها سافر إلى الموصل لعدة أيام. ولما هم بالانصراف ألحت عليه أن تقدم له واجب الضيافة. وبالفعل ... قدمت له جسدها، فتذوق أشهى وجبة من النشوة، غيبت عقله، وكان سرعان ما يحن لوجبة ثانية ثم ثالثة، هكذا أوقعت به في شباكها، فسلمها ملفاً كبيراً يحوي كل أسرار المخزن رقم 3.

كانت مكافأة يعقوب ألفين وخمسمائة دينار، ومثلها لفروزندة، أما أحمد رافع ... فقد أصيب بحالة اكتئاب شديد بعدما أفاق إلى نفسه، وأحس بالجرم الذي اقترفه ضد بلده، وامتنع عن زيارة فروزندة، فاستشعرت عميلة الموساد الخطر إذا ما تطورت حالته النفسية سوءاً، وأقدم على الانتحار في لحظة ضعف، تاركاً رسالة تقودها حبل المشنقة.

لذلك .. أرسل لها عبد نابلون بسم السيانيد الفتاك، حيث أخذه يعقوب وذهب لزيارته رافع الذي قابله بغضب، فغافله الخائن ووضع له السيانيد في العصير، ولما ظهرت أعراض التسمم غادر يعقوب المنزل، وفي اليوم التالي مشى في جنازة ضحيته.

هكذا تفعل الموساد مع ضحاياها الذين يتراجعون في التعامل معها، في لحظة صدق يشعرون فيها بوخز الضمير والندم، ففي عالم الجاسوسية لا مشاعر أو عواطف، فالجاسوسية لا تقوم على ضمير أو شرف، ولا تملك قلباً يعرف نبضة رحمة تحكمه خفقات الهوى. لكن ... في تاريخ الجاسوسية العالمية، هناك حالات نادرة جداً ثاب فيها الجاسوس إلى رشده، وأصغى لنداء الحب فلبى النداء، فالجاسوسية والحب .. موضوع شيق للبحث والكتابة ... !!